بيوت الاحزاب

بقلم: 

هل لي بسؤال؟

حينما تسمعون الأذان، مع أي مسجد في منطقتكم تردِّدون وراءه؟ هل يمكنكم التركيز؟
تأتي كلمة "مسجد" من السُّجود وهي بيوت خُصِّصت للعبادة منذ قديم الأزل، بفكرتها وإن اختلفت التَّسمية على مرِّ الزَّمان.
أمَّا كلمة "جامع"، باقتضاب، هي من الأصل "جَمَعَ"- جَمَعَ الشيءَ عن تَفْرِقة يَجْمَعُه جَمْعاً وجَمَّعَه وأَجْمَعَه فاجتَمع واجْدَمَعَ، وهي مضارعة، وكذلك تجمَّع واسْتجمع.
والمجموع: الذي جُمع من ههنا وههنا وإِن لم يجعل كالشيء الواحد. (لسان العرب).
إذا لنتفق أنَّ المَرام (الغاية) من تسمية المساجد بالجوامع هي جمع الناس في بيوت موحدَّة وظيفتها "العبادة"، وللعبادة بعض الخواص اللازمة.

دعني يا قارئي أنوِّه لمسألة العبادة بعض الشيء:
يُقال في الحديث: "إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"
الفائدة من الحديث أنَّ للعبادة بعد إجتماعي، ورهن رسول الله قبول الصَّلاة (أحد أشكال تأدية العبادة) بالأخلاق، وأنَّ قبولها مربوط بمعاملة الإنسان مع الإنسان وهذا سر وجودنا أصلًا.

لِنذهب لغزَّة:
من الملاحظ مؤخرًا بعد العام 2007 فقدان الثقة تدريجيًا بالمؤسسة الدينية؛ لعدة أسباب أهمُّها أنَّ عامل "الجمع" صار عامل "تفرقة".
وصارت "المساجد" تُستخدم لأغراض غير العبادة (بحجة إتِّباع السنة) كما صارت محزَّبة وفق الحزب المتأسلم القائم عليها. ودعونا نتفق أنَّ ذلك زعزع الثقة في المنظومة الدينية ككل. للأسف!

البعد الاجتماعي:
قبل حوالي عشرين عام، لم تكن المساجد منتشرة بكثرة في كل مكان، بل كان هناك مسجد أو مسجدين في المنطقة يتزاور فيها الناس كل يوم 5 مرات أو 4 أو مرَّة، إنما كان الاحتكاك المجتمعي أوسع مما هو عيله اليوم. وتلاحظون فتور العلاقات الاجتماعية اليوم (ولا أضع المساجد سبباً مباشراً لذلك؛ حتى لا يسيء أحد فهمي).

لكن اليوم، تجد في الشارع الذي لا يتجاوز طوله كيلومتر أكثر من 4 مساجد (كما في حارتنا)، ويمكنكم أن تحزروا القوتين القائمتين على هذه المساجد (الخضراء والسمراء) ومن غيرهما.

بالتالي تفرَّق الناس على عدَّة أماكن "للاجتماع" وقلَّ الاحتكاك المجتمعي، ثم بدأ العامَّة يلاحظون ضعف الخطاب الديني من خلال خطبة الجمعة الفاترة (عادة) وصار الناس على دراية مسبقة بما سيقال، وبالنموذج القائم، ويعلمون أنَّهم لا يستطيعون المعارضة؛ فمن سيعارض "أمر الله في الأرض"!

ثم من الملاحظ أنَّ المساجد صارت تستخدم لكل شيء، حتى الحكاوي، والحواديث، والنميمة، وأحياناً أشياء أخرى من العيب أن أذكرها احتراماً لحرمة بيوت الله (قولًا وفعلًا). وذلك عزز فقدان الثقة بتلك المؤسسة.

وعليه صرتَ تجد فلان يصلي في مسجد كذا، ولا يصلي في غيره، أو على الأقل تكون مرجعيته مسجد كذا. وكلُّ ذلك بسند حزبي له غطاء ديني. للأسف. (لا أقصد التعميم).

لِنعد لمسألة الأذان، حقَّاً، هل يوجد مسافة مقدارها 4 دقائق بين خطَّي طول عرض بين كل مسجد وآخر؛ كي يختلفا في موعد الأذان؟ عجبي!
لا أستطيع إيجاد تفسير لاختلاف الموعد، إلَّا أنَّ ضبط ساعة المؤذِّنين يختلف بحسب "مصلِّح الساعات"، ربَّما!
فمع من يفترض بي أن أردد؟ ستقول، المسجد الأقرب إليك. سأقول، كلُّها قريبة.

مرام المسجد:
كان المسجد في القدِم لأداء العبادة على إختلاف أشكالها ومقاصدها وتوجيهاتها. وصار في عهد الإسلام مكان للعبادة وله بعد إجتماعي كما أسلفت في الحديث أعلاه. السبب وراء ذلك أنَّه لم يكن بالإمكان في عهد الإسلام الأول بناء نوادٍ ثقافية، على الرَّغم من أنَّ الأسواق الشِّعرية كانت لا زالت تعمل. وكان المسجد هو "الجامع" للمسلمين كي يلتقوا بالرسول محمد- صلَّى الله عليه وسلم. وبكل تأكيد لم يكن المكان الوحيد.

ثم تطوَّر الأمر في العهود التالية، كالأندلس مثلًا، بدأت تزدهر المدارس التعليمية والنوادي الثقافية والمكتبات، وصار المسجد لأداء الصلاة، واجتماع الناس لتعلُّمِ أشياء تهمهم في حياتهم وعلاقاتهم وعلاقتهم بربهم.

ثم شيئًا فشيئًا تعرَّت فكرة "الجامع" للحت والتعرية؛ حتى نراه ما عليه اليوم:
ألوان في كل مكان، شعارات، عبارات، صور، فوضى، وتوتة، نظرات غريبة (إن لم تكن ابن المسجد)، ووصل بنا الأمر أن استمرء الناسُ عبارات مثل: "مسجد حماس" أو "مسجد الجهاد الإسلامي" أو "شباب مسجد كذا".

والعجيب في الأمر أنَّ وظيفة المسجد اليوم، لم تعد بذات أهمية ما كان عليه في زمن الرسول؛ فلدينا اليوم النوادي والمكتبات والأقبية وقاعات الاجتماعات والصالات والقصور والملاهي وغيرها وغيرها.

تعجبني تركيا في هذا (المسجد مكان للعبادة، لا تسمع فيه همسًا، وليس به أي شيء من العالم الخارجي يلهيك عن الصلاة).
لا أعرف لماذا يصرُّ البعض على جعل المساجد ثكنات عسكرية أو نوادي للحديث، أو مكان لتناول الطَّعام أو أو مما تشاهدون اليوم؟
"في بيوت أذن الله أن تُرفَع ويذكر فيها اسمه"

واضح من العبارة المقصد من بناء المساجد.
إنما أعجب للتمويل الضخم الذي يأتي لبنائها، ويسرق نصفه أو أكثر (ولا تنكروا ذلك رجاءًا) في حين أنَّ شعب المتبرع لا يجد اللُّقمة!
وأنَّ هناك مناحٍ أخرى تحتاج لتمويل وتنمية.

هل هذه مصادفة؟
كلَّا لا وجود للمصادفة خصوصًا في فلسطين. ورأيتم النتيجة اليوم (الفكر الاسلامي المتطرف، والقتل باسم الدين، والتفرقة على أساسه، والحق والكراهية بموجبه) وهو مخالف تمامًا لتعاليم ديننا الحنيف. أين النَّهي عن الفحشاء والمنكر؟

حتى وصل الأمر لـِ "مَسجَدة" الوظائف (أي وُضِعَ شرط القبول بحسب المسجد الذي ينتمي إليه المتقدم). لا أود الإطالة في مثل هذا، عذرًا، فهو مؤلم.

هذهِ فرِّق تسد
واللَّعب جاء على أهم عامل لدى الشَّعب العربي (الإحساس الديني). وقد نجحت الخطَّة بكل فعالية.
استاء النَّاس من كثرة المساجد وقلَّة الأخلاق، ملَّوا من كثرة "الجوامع" وزيادة الفُرقة. يا أخوة لقد أُزهقت الدِّماء؛ لمشكلة على من يسيطر على مسجد الآخر (يمكنكم أن تحرزوا بين من ومن).

وها نحن على أبواب رمضان، فهل سيتغير من ذلك شيء؟
وهل سنرقى بوعينا، ونكفُّ عن استغلال التمويل الخارجي في شيء لا جدوى منه؟ والبدء بالنظر للمسجد كمسجد وللجامع كجامع حقًا.

ماذا تُراه أجمل، مسجد ممتلى في صلاة الظَُهر مثلًا، أم مائة مسجد لا يعدو مصلِّيها السطر الأول (من كبار السَّن، وأحيانا "شباب المسجد")؟
لماذا لا نتنازل عن أنفتنا الزائفة ونتقبل بعضنا بعضًا؟ لماذا لا نتبع الدِّين القويم في علاقاتنا مع أنفسنا ومع غيرنا، التي هي أساس عبادتنا؟
لماذا لا نبدأ بإصلاح أنفسنا، ورفض عوامل التفرقة، والبحث عمَّا يجمعنا حقيقًة؟ وهل يمكننا حل المشكلة؟ وأنا أجد حلَّها بسيطًا.
فقدنا الثِّقة في كل شيء، فلا توصلوها إلى من هو ليس بشيء! نشدُّ على أياديكم، يا من لكم الأمر في هذا.