لماذا يفشل الشاباك في مواجهة العمليات الفردية؟!

بقلم: 

بناء الاحتلال لجدار الفصل العنصري وتحويل محافظات الضفة الغربية إلى “كانتونات” معزولة، وقطع التواصل الجغرافي ما بين المدن من جهة، وما بين المدينة الواحدة ومعظم قراها من جهة أخرى، كل ذلك جعل المقاومة الجماهيرية والجماعية تكاد تكون مستحيلة، فبعد انتهاء انتفاضة الأقصى لم يعد الجيش الاسرائيلي يتمركز داخل المدن لتندلع المواجهات العنيفة معه، كما لجأ الاحتلال إلى تخصيص طرق بديلة آمنة للمستوطنين وبعيدة عن التجمعات والمناطق الفلسطينية، وبذلك أصبحت جدوى المقاومة الجماهيرية أقل تأثيرا.

من جهة أخرى، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية قد انتهجت البرنامج السلمي وأنهت كافة مظاهر “عسكرة الانتفاضة” عقب الانتخابات الفلسطينية العامة في 2005، ودخل الشعب الفلسطيني في موجات الاقتتال والانقسام الداخلي بين حركتي حماس وفتح، وتخلت كافة التنظيمات الفلسطينية عن نهج المقاومة المسلحة “المنظمة” في الضفة الغربية، أي تلك التي تكون تحت غطاء سياسي مباشر وبأوامر فلسطينية واضحة، وبإشراف مجموعات عسكرية كاملة التنظيم والتمويل والعتاد، فبدأ الشباب الفلسطيني مع تصاعد الاعتداءات الاسرائيلية بالعمليات الفردية دون أن تنجح أجهزة الاحتلال الأمنية بكشف الغالبية العظمى من هذه العمليات، فالضربات الاستباقية غير ممكنة في هذا المجال.

بداية يجب التأكيد بأن هذه العمليات الفردية ليست وليدة اللحظة أو العام، بل كانت موجودة فيما هو معروف بحرب السكاكين إبان الانتفاضة الأولى وحتى خلال الانتفاضة الثانية، لكنها لم تكن بهذه الكثرة، فعلى صعيد الانتفاضة الأولى فهي امتازت بالمواجهات الجماهيرية بالحجارة والزجاجات الحارقة وعمليات الكر والفر، فلا يجد الشاب الفلسطيني عاملاً دافعاً له ليشحذ سكينه ويهجم على مستوطنٍ أو جندي، لأن المواجهات كانت يومية ويُمكنه أن يخوضها ويشارك فيها وينفّس عن غضبه خلالها.

أما بالنسبة للانتفاضة الثانية فبدايتها كانت على شاكلة الأولى بالجماهيرية لكن بعد عدة أشهر دخل السلاح الناري للميدان وكان متوافرا بكثافة في تلك الفترة، وهنا الشاب الفلسطيني يفضل الموت بعملية استشهادية أو باشتباك مسلح برفقة مجموعته على أن يموت وحيداً وبيده سكينٌ يمكن أن تقتل أو قد لا تقتل وقد تصيب أو لا تصيب!.

أمام انتهاء مظاهر العسكرة ووضع الانتفاضة الثانية لأوزارها، وتصاعد اعتداءات الاحتلال وجرائم مستوطنيه، وجد الشباب الفلسطيني نفسه وحيدا في الميدان، فأمسك بزمام المبادرة وانطلقت العمليات الفردية على شكل فعل ورد فعل، ولعل أبرز الأعوام التي تزايدت فيها هذه العمليات كان العام 2014، فعلى سبيل المثال لا الحصر: جريمة دهس الطفلة ايناس قرب سنجل قضاء رام الله قابلها المقدسي عبد الرحمن الشلودي والمقدسي ابراهيم عكاري بعمليتي دهس لمستوطنين، وكذلك دعوات المتطرف الحاخام “يهودا غليك” لإزالة الاوقاف من القدس، ولاقتحام الأقصى بشكل كثيف ومتواصل قابلها المقدسي معتز حجازي بإطلاق النار على غليك في محاولة لاغتياله، إضافة لجريمة شنق المستوطنين للمقدسي يوسف الرموني داخل حافلته الاسرائيلية التي يعمل بها قوبلت من أبناء العمومة غسان وعدي أبو جمل باقتحام كنيس يهودي في القدس، والإجهاز على عددٍ من المستوطنين المتطرفين بالـ”البلطات” وبمسدس ناري.

صحيفتا “يديعوت أحرنوت” و”معاريف” وموقع “واللا” وغيرها من المصادر الاسرائيلية أقرت عام 2014 بفشل جهود أجهزة الأمن بوقف العمليات الفردية، واعترف قادة الاحتلال أنها خطرٌ لا يمكن إيقافه، فلماذا تشكل عمليات الدهس والطعن هذا الخطر في هذه المرحلة؟

ببساطة عمليات الطعن والدهس تكون فردية، أي أن راصدها ومخططها ومنفذها واحد فقط، أي نفس الشخص وسره يلازمه وحده، وكأنه يتصرف وفق المثل الشعبي “إلعب وحدك تيجي راضي”!.

أما العمليات الأخرى الجماعية “غير الفردية” ففرص فشلها أكبر من العمليات الفردية، نظرا لإحتمالية كشف أحد المخططين أو المنفذين أو إمكانية متابعة نشاطه اليومي وتحركاته، أما بالنسبة للعملية الفردية فالاحتلال يكون عاجزا عن تحديد الزمان والمكان وهوية الشخص، وبالنسبة لعمليات اطلاق النار الجماعية وحتى الفردية فإن احتمالية كشف منفذها قبل تنفيذها هي أكبر من عمليات الطعن والدهس الفردية، نظراً لأن الأولى قد يشوبها أخطاء خلال عملية شراء السلاح واقتنائه، مثلا: قد يقع الفرد في كمين محكم إسرائيلي أو متعاونين مع الاحتلال خلال عملية شراء السلاح من التجار، أو قد يعترف عليه أحد التجار أو أحد الذين اشترى منهم السلاح داخل السجن الاسرائيلي.

من جانبٍ آخر، إن العملية الفردية لا تحتاج لاجتماعات طويلة ولا لتخطيط ولا لنقاش مستفيض، ولا تحتاج لزيارات متكررة لمكان العملية قبل التنفيذ، كل هذه الأمور في حال وجودها تثير الشبهات وتعتمد عليها العمليات الجماعية أو العمليات غير الفردية من اطلاق النار وما الى ذلك، أما الفردية فلا تحتاج سوى الانطلاق والتنفيذ بدون علم أحد غير المنفذ، وهنا نقطة أخرى تبرز وهي في حال وجود عمليات جماعية فإن الاحتلال يراقب الهواتف النقالة وتحركات أصحابها، وبالتالي أي حركة غير اعتيادية لأي شخص قد تفشل العملية –خاصة أن العمليات الجماعية والتي يشترك فيها أكثر من شخص تكون لأشخاص ناشطين في الفصائل وأسرى سابقين على قضايا أمنية لدى الاحتلال-.

الأمر الأصعب على أجهزة امن الاحتلال يتمثل في عدم إعلان أي جهة فلسطينية عن تبنيها للعمليات الفردية، لأن الاحتلال عندما تتم أي عملية فإنه يسارع للتركيز على المنطقة وأصدقاء المنفذ –إذا أستشهد أو تم اعتقاله-، وكذلك على الناشطين في التنظيم الذي أعلن عن العملية ويصل لطرف خيط في نهاية الأمر، وأيضا إن منفذي العمليات الفردية بمعظمهم يحملون “نوايا استشهادية” وبأدوات بسيطة أي أن الاحتلال ليس لديه فرصة للعثور على المنفذ قبل انطلاقه.

ويتطرق الرئيس السابق لجهاز الشاباك يعقوب بيري إلى صعوبة إحباط العمليات الفردية، في كتابه “القادم لقتلك” والذي يلخص سيرته الحياتية وسنوات عمله مع الشاباك الاسرائيلي، حيث يقول بيري في كتابه الصادر عام 1999 تعقيباً على إرتكاب غولدشتاين لمجزرة الحرم الابراهيمي في شباط 1994 :”إن الاستعداد لمواجهة قاتل منفرد هي مهمة صعبة جداً، وإمكانية إحباط العملية أو التخفيف من شدة خطورتها هي إمكانية قليلة جداً”، ويوضح رئيس الشاباك السابق يعقوب بيري أن كشف أي معلومة عن هوية المنفذ وعن مكان العملية وزمانها هو أمرٌ يكاد يكون مستحيلاً، ويصف بيري آلية مواجهة أجهزة الأمن الاسرائيلية للعملية الفردية بمبدأ “التلمس في الظلام”.