"الجهل في الضفة الغربية... منتج صناعي بدون تاريخ إنتهاء!"

بقلم: 

ما أكتبه، هو أوسع ما كتب في هذه الجغرافية الضفة الغربية أنتشارا. فقد قرأه كل من يئن، وصرخ بعمق جرح ألمه، وهو يعيش في الضفة الغربية. قراؤه قبل أن يكتب، لأنهم عاشوه، ويكابدونه يوميا وفي كل أوقاتهم، ولحظات حياتهم على مدى العقدين الأخرين. ليرسموا بآهات ألمهم أكبر لوحة تشكيلية في تاريخ هذا الشعب. لأنه واقعهم الذي يتجرعونه، وهوائهم الفاسد الذي يصحون ويستنشقونه كل يوم، وظلامهم الذي يلفهم بالسواد منذ عقدين من الزمن ... لنصل لقناعة أن " بؤسنا وجهلنا " وبجميع درجات الندرة والتميز، أصبح صناعة فلسطينية بأمتياز !
أذن لماذا الكتابة؟

لأن هذا الواقع يحدث طوال الوقت في الضفة الغربية، ولم أكن أملك التفرج أو التسلي أو الصمت، ولست بالسادي في شيء، لكي أتلذذ على عذاب الأخرين بصنوفه شتى. ولست في عداد المواطنين الغارقين في الفردانية، أو في الخوف من قمع سلطة وكيلة للاحتلال، بحكم مسؤوليتها الوظيفية المنوطة بها على أتم وجه بموجب (نكبة) أوسلو. فلا تستطيع أي جماهير أن تتجرأ على النضال والمقاومة ضد الأحتلال أو أستبداد سلطوي ما دام المواطنون غارقين، ومحتجبين وراء اللأغوس في أساليب تفكير فردانية أو أنتهازية أو حلقية، لأن الشجاعة في الضفة الغربية هذه الأيام، ليست أن تقول ما يستفز هذه السلطة وأجهزتها، بل أن تقول ما قد يستفز من نجحت هذه السلطة في غسل عواطفهم، وأصابة ضمائرهم بالتجلد، لا أدمغتهم فقط. خدمة لمصلحتها، ومصلحة شخوصها. فينبغي تشجيعهم على الثقة في قوة الشعب ونضاله وتضحياته.

كما أنني لست من " قاطني الرصيف" الفضولين والمتطفلين، وأصحاب النظرات الخارقة حتى للعقول والأجساد العابرين للشارع، ولأستدراك وقراءة فنجان قهوة ما يفكر فيه الشعب. وهم كثر في عاصمة أفراز أوسلو رام الله... لأن كل من يعيش في رام الله، لديه رواية ما، لما يدور فيها، ومعرفة أو أدعاء لمعرفة ما يدور، أو يملك شيء ما لما يدور.

إنتفض القلم في يدي، حين أنتفضت قريحتي، وضاقت ذرعا بحجم الصمت، والسكون في زمن الفرجة، وإستلذاذ الصمت وإستعذابه. والأقبال الشديد على منتجات تأثيث رفوف عقولنا وذاكرتنا من سلع "صناعة الجهل ".

فمن الغرابة أن شعب تعرض لكل هذه الويلات والنكبات، يمارس عليه من قبل من يحتكرون صناعة القرار، والطبقة الكمبرادورية، "صناعة الجهل " والتدجين، تتصل بأعلى مواقع مصدري ومتشدقي الشعارات والأكاذيب والأضاليل. ما يسمونه ماضيهم المشرق(البطولات الوهمية)، حتى غدا غناء للأستهلاك المحلي. وسوء تفاهم بين بني البشر في الضفة الغربية، وجنوحهم الى غريزة الأستبداد والطغيان، وسيطرة انفعالات الكره والبغضاء والحقد على النفوس، وتكالبهم على شيطنة الآخر والقول بفردوسية الأنا. واضعين مسطرة للقياس عليها نضالات العصر. ومقياس البطولة والنضال.... ويتفهون كل نضال أخر مهما علا شأنه. وكأنهم الوارث والموروث!

ففي كل يوم صراعات فصائلية، وتجارات ومكتسبات شخصية للأسف، على سلطات ومناصب وهمية. تغذي كل يوم وتكبر فيها الكراهية، بسبب المصالح الكبيرة أو الصغيرة أو حتى الغيرات الذاتية المعمية للأبصار. كما أرتضى هؤلاء(القادة) أنفسهم الفاقدين للأسف، كما يعرف الجميع للشرعية، بهذه الصراعات الضيقة والأنقسامات، لأنها الدجاجة الذهب التي تملاء حساباتهم، وتحقق ظهورهم الأعلامي، وسفرياتهم المستمرة، ووقود سياراتهم، بل ووصل الأمر بهم للأنغماس في صراعات خارج حدود فلسطين، وترديد شعارات فاقدة للأرضية.

  فالأحقاد في هذا الوطن المحتل ليس لها لغة سوى التدمير الأعمى. لأي محاولة لتوحيد الصفوف ونبذ الخلافات. حتى غدا حديث نبذ الفرقة والأنقسام والوحدة، درامة تلفزيونية تجاوزة في طولها الدرامة ( المكسيكية، والتركية). كما أن لهذه الحالة متشدقيها وتجارها ومستفيديها، ولهم خطابهم الإعلامي أيضا. ونقاشاتهم المترفة التي لا تضيف إلا نكد وكدر لمعظم الفلسطينين في الضفة، كما في كل الأرجاء. لنصل إلى القول: أن بشر السلطة (أهل الضفة) لم يعودوا حتى أندادا أذكياء يستحقون العداء. ويصغرون حتى عن الهجاء على مرأى من الشاعر المتنبي. أنهم يفعلون الشيء ويدعون عكسه في خطابهم من غير أدنى أحساس بالتناقض أو الخجل، للأسف. والأمثلة كثيرة من أكبر شعار في السلطة وقبلها منظمة التحرير إلى الأصغر في المؤسسات إلى الأكثر تفصيلاً على مستوى الحياة الاجتماعية. 
فالشعوب التي تخضع تحت نير الأحتلال، تكون غنية هذه الشعوب بالنابغين بالنضال والمقاومة فيها. والذين أودعتهم بطولاتهم وتضحياتهم خصائصها ومميزاتها، وطبيعة مقاومتهم في صدارة المشهد، ومن يمثل هذا الشعب. وهؤلاء هم الشعب. بما يمثلون جوهره. وبما ينتمون أليه، وقد يكونوا  أبناء لأباء متواضعي التعليم والقدرات . ولكنهم عظيمي بما قدموه ويقدموا لهذه الأرض(الوطن).

فإذا أغفل هذا الإعتبار. فهنا صناعة الجهل، أي الأصطناع الخادع للشعبية عن طريق أحتكارات مفتعلة في مواقع وهمية للتشريع والتنفيذ. والسلطة التي تكون في الواقع المر، التشريع والتنفيذ وأيضا القضاء معا. فمثلا ليست المسألة فئوية أو فصائلية أو وضع اليد أو قوة جبرية، لكن الأقدر على العمل الوطني. فإذا كان فصيل (ح، ف، أي كان المسمى) أقدر على العمل الوطني فلتكن نسبتهم متكافئة مع هذه القدرة التي نتمنى أن تصل 100% لا 50% فقط. أن تاريخنا على مدار عصوره، كتبه فلسطينيون. ليسوا بالضرورة من (ح، ف. أي كان) بأنفسهم، وأن كانوا أبناء لفصائل ومعدومين أيضا.

ولأن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل، قادرون على جعلك ترتكب الفظائع. هنا تنتفي الصيحة أو الأدعاء الذي لا يتورع عن الجهر بمعاداة طبقة الكمبرادور (الطفيلية) مما سماهم أبناء المدن الأخرى ( أفنديات رام الله)، أو لوحات أعلان شركات الفصيل المسيطر (أم الجماهير)، ليتذرع بهذا إلى تبرير الطوطمية السياسية.

هكذا تزداد نظرية " أهل الثقة، أهل الخبرة، والماضي النضالي" كل يوم أستفحالا ووبالا. أن مثل هذا الشرط له غرض أخر خبيء، وظاهر في وقت واحد هو تجذيره لإستبقاء وباء السلطة، وديمومتها بالنسبة لهؤلاء، وتسهيل مهمتها فيما تريد أصداره من قرارات وويلات، بالتمرير لا بالدراسة ولا بالمناقشة الحضارية. تعكس تطور ورقي المجتمع.

هنا نفقد السببية، فالذي لا يعلم، لا يناقش .... لهذا في رام الله كل من يناقش ويتحدث، هو في نظر هذه السلطة يعلم. وهذا في أعتبارهم تهديد لسلطتهم، ويجب أسكاته. والذي وصل بالأصطناع، يدفع الثمن، وخاصة أنه لا يكلفه شيئا، أي الموافقة، بلا قيد أو شرط، هذا دوره الحقيقي ولا شيء سواه. بدليل التصفيق حيث يتحتم الحساب، والسرور الشديد حيث يجب الرفض. الطاعة والأنصياع هذا هو المطلوب. والنشيد بالبطولات الماضوية، أن وجدت أصلا.. هذا هو ما يحدث من الموافقة على قوانين تشغل مئات الصفحات في جلسة واحدة، حيث في نظرهم لا تغني في الواقع تعدد الجلسات، ومناقشتها وطلب الأستشاره وأخذ الرأي فيها، لأن كل شيء في هذه (السلطة) يأتيها منتج ومعلب في مصانع صناعة القرار في تل بيب، وواشنطن وأوروبا، وعواصم أنظمة عار الأعتدال العربي. وعبر أذرعهم: منظمات الأنجزة، ووكالاتهم تحت مسميات مختلفة.

أما صنع القرار، حدث ولا حرج، فهو في الأصل فردي، يعيد صياغة ورسم مقولات القرون الوسطى (أنا السلطة والسلطة أنا) ولا يقبل المناقشة أو المشاركة أو الدراسة. والقرار قدر، ومن يعترض على القرار أو المقرر فهو يمس القدر، وضد المشروع الوطني، وضد فلسطين. لأن جميعها قرارات مصيرية وتاريخية كمل يسوقون ويدعون في أضاليلهم. وتمويهها عبر بلاغة لفظية تعلموها بحسب الجانب الدولي الذي يمثلونه. وما يسمونه المجلس التشريعي هو مسرح لأعشاش الطيور ونسيج العناكب، وأزيز الصراصير الليلي. لهذا فنحن مرهونون للتواريخ التي لا توقظ فينا شيء، بل يستخدمونها لتغيبنا وتبديد أمالنا وطموحنا، وصناعة جهلنا. مثل غيوم  صيفية عابرة.. للأسف؟

فسلطة أشبعتنا مناٌ بالحديث عن قيمة المواطن الأنسان، والذي يعرف جيدا أن لا قيمة له عند هذه السلطة. فأنا وغيري نعرف ذلك لكثرة الأمور التي لا تسير بسلاسة في حياتنا إلا لأسباب كهذه. وكون الحقيقة لا تظهر إلا بعد أن يتم تأسيس الشروط الضرورية ومراجعة الذات، بأعتبارها تتويجا لبناء الواقع (مجتمع المقاومة) كون هذه الحقيقة فلسفة ليست تجريدا في تجريد، بل أنها تدرك عصرها الذي تعيشه في أسئلة عميقة ترتبط بحياة الأنسان الفلسطيني في الضفة الغربية، ومعنى وجوده وتحرره من أحتلاله، وعبوديته وأستعباده، عبر محتله ووكلاءه. وتدافع عن عدالته وعدالة قضيته ومقاومته. لذلك هي لا تقبل القوالب الجاهزة ، كما ترفض الإجابات المعلبة التي تقدمها سلطة الأستعباد.

فهذه السلطة بشخوصها تنظر إلى طرح السؤال، وكأنه أمر غريب عن الحقيقة، أمر لا فائدة منه، وضد كل ثابت. دون أن تدرك أن السؤال هو الطريق الذي يؤدي إلى الفكر، وأنارة العقول المظلمة، وأدراك المسار، وتحطيم أوتاد الجهل. ولعل هذا الوقت الذي نعيش فيه في الضفة الغربية لم يفكر فيه بعد للأسف. لأن ما ينبغي التفكير فيه وقع في النسيان.

ولكي لا نمسك بسحب الخطأ بدلا من أن نصل إلى سماء الحقيقة، فأننا جميعا أبناء قضية واحدة، لا أبناء قضايا متعددة، تفرقت بها السبل وتشتت. ومن دون شك، فهذه بركة المقاومة حتى لو كانت بالحجارة، أو الصوت والظواهر الكلامية. هذه بركة الانتفاضة التي تزيح الركام، وتتضح الرؤية، وتجلو الصدأ، وتستعيد أفضل معادن الشعوب تحت الاحتلال، ونصبح بها أجمل وأكثر تفائل وأمل. فقضية الشعب الفلسطيني هي قضية تحرير وطني، وليست قضية نزاع على سلطات وهمية، وقوالب وصيغ مختلفة، وتحت مسميات(دولة قن الدجاج) في الضفة الغربية، والتي عدد المستوطنات أكثر من عدد البلدات والمدن فيها.

فهل أنحدرنا نحن الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى هذا المستوى من فقدان الوعي؟ وهل لم يعد لهذا الليل الطوبل في الضفة العربية الغارق في ظلامه من صبح؟.. أم أن الطبيعة قد غيرت حتى قانون الليل والنهار؟  أذ ربما لن يتبقى في بلاد الشمس من نور إلا لهيب المحرقة، هذا الذي أباد كل خضرة من جذورها، وجفف كل واحة الوعي من ينبوعها. ويبقى ظلام الجهل كسلعة غير منتهية الصلاحية. كما ويبقى أن نصدق أو لا نصدق !!! إلى أن يخرج الفلسطيني الضفاوي من خيمته رافع رأسه نحو الأفق أمامه، باحثا عن الشمس ليراها في عينيه وحده، ليكنس هذا الظلام السلطوي والبلاء السرطاني الأسلوي، الذي بلينا به منذ عقدين من الزمن. هل هذا ممكن على جعل الشمس تعود لتشرق في عينيه حقا؟
إلى أن يحن ذلك، لنصرخ بكفى ثم كفى تنازع، ونصب أوتاد التجهيل في عقول أبناء هذا الشعب، في أرض لم تتحرر بعد. ولم تنجلي غيومها وتصفو سمائها.