تصاعد الخطاب الديني في أحزاب اليسار الفلسطيني..الجبهة الشعبية نموذجاً

بقلم: 

في بداية العقد التاسع من القرن العشرين بدأت مرحلة تحول كبرى ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، بل على الصعيد العالمي عندما انهارت المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي وتراجع دور الحركات الثورية التي ارتبطت تاريخيا بمحوره. إضافة على الصعيد الإقليمي فقد حوصر العراق بعد حرب أممية عليه أفقدته الفعل الموقف الداعم لليسار الفلسطيني والجبهة الشعبية تحديدا، وانهيار نظام اليمن الجنوبي الذي اعتبر ساحة مريحة للفعل الجبهاوي منذ السبعينيات من القرن العشرين واتحاده مع اليمن الشمالي الذي يدور في الفلك السعودي الأمريكي، كذلك شهدت الساحة الإقليمية تنامي إيران كقوة إسلامية مهمة في المنطقة تفتح الأبواب للأحزاب الإسلامية التي ترغب بمقاومة إسرائيل كحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين، فتصاعدت في تلك الفترة على أنقاض هزيمة وتراجع مشروع منظمة التحرير رؤية الحركة الإسلامية الفلسطينية التي دخلت ساحة العمل الوطني في انتفاضة العام 1987 كمنافس حقيقي لكل أحزاب المنظمة. تبنت فكرا إسلاميا صريحا ورفعت شعارات ذات طابع إسلامي لاقت قبولا مباشرا في المجتمع الفلسطيني المتدين أصلا، فمثل هذه الشعارات كان من السهل فهمها لأنها نابعة من الثقافة الدينية، إضافة لقدرة الحركة على تسويقها بسهولة عبر المساجد والجوامع التي اعتمدتها كنقاط لقيادة الشارع وتحشيد الجماهير .

   كان الواقع الفلسطيني يتغير بتسارع قوي إلى حد ما حيث دخلت منظمة التحرير إلى الضفة وغزة على اثر توقيع أوسلو، وبدأت بإنشاء ما يشبه الدولة الفلسطينية في حين كانت حركة حماس تتولى زمام مبادرة الفعل المقاوم وكلا الطرفين امتلك المال الكافي لترسيخ مشروعه على الأرض، بينما دخلت الجبهة الشعبية وأحزاب اليسار عموما أزمتها الفكرية والتنظيمية والسياسية المميتة . ففكريا كانت لانحسار الفكر الماركسي على المستوى العالمي أثارا مدمرة على البنية التنظيمية التي تحتاج للمال للاستمرار، وهذا المال انحسر بانحسار مصادر الدعم العربية كالعراق وليبيا واليمن الجنوبي والحركة الثورية الأممية عموما وبالتالي فقدت الجبهة القدرة المالية للإنفاق على احتياجاتها ونشاطها وبات البديل أمام كادراتها وعناصرها إما بالانتقال للعمل في مؤسسات السلطة آو البحث عن الخلاص الفردي بالعمل الذاتي لتوفير لقمة العيش أو بالانتقال للجانب الديني المتمثل بحركة حماس، حيث يروي القيادي المذكور أعلاه عن تجربته فيقول : " خرجنا من السجون في أواسط العام 1995 فوجدنا أمامنا واقعا متغيرا لدرجة لم نتخيلها، شاهدنا سلطة تتصور نفسها دولة وتفرض علينا التعامل معها، كذلك حيث بتنا لو احتجنا لعمل مضطرين أن نأخذ شهادة حسن السيرة والسلوك من أجهزتها الأمنية التي كانت تساومنا أن ندلي إليها بكل ما نعرف عن الجبهة والنضال الذي خضناه مقابل تلك الورقة.  ومن حاول منا أن يستمر في النضال ضد المحتل كان مصيره الاعتقال في سجون هذه السلطة، إضافة لانهيار شبه كامل للحزب الذي كان يحمينا ويوفر علينا السؤال عن لقمة الخبز كأذلاء وفي مقابل ذلك كان في أعناقنا عائلات تحتاج أن تعيش دون فقر ، فبعض رفاقنا ذهب وأصبح متدينا في صفوف حماس والتدين كان ضروريا لقبول حماس بهم لدرجة أن احد الرفاق كان يذهب للمسجد في كل صلاة ويأخذ أطفاله معه ليظهر أن العائلة كلها أصبحت متدينة،  ومنهم من ارتمى بأحضان السلطة ومهم من ابتعد عن العمل النضالي وبحث له عن عمل ليعول أسرته والبقية القليلة بقيت تكابر،
وعندما نحاول الحديث مع احد ليعود لصف التنظيم كان يقول لنا بصراحة انأ  عندي عيلة ولازم أعيشها، أو يقول يا زلمة اليسار مات ببلاده وأنت جاي تقيمه هون ... " .
هكذا يصف المتحدث الواقع الذي بات يعيشه كمناضل في صفوف الجبهة الشعبية، فالحادثة لم تكن تنحصر فيه كفرد بل كانت مثالا لما واجهه كل العناصر اليسارية التي كانت تشكل الحاضنة الشعبية للحزب، الأمر الذي عكس نفسه في المؤتمر الوطني السادس حيث تم تغيير المادة السادسة في النظام الداخلي للجبهة الشعبية والتي كانت تنص " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تتبنى الماركسية اللينينية كنظرية علمية ثورية " وأصبحت بعد التعديل " تسترشد بالنظيرة الماركسية اللينينية وكل ما هو تقدمي وعلمي في الثقافة العربية والإنسانية "(1) . وهذا إن دل على شيء فهو يدل على حالة الضياع الفكري التي عانت منها الجبهة أمام المد الديني الأخذ في التصاعد من جهة والمد الشعبي الملتف حول السلطة كمصدر دخل مريح ومصدر قوة اجتماعية من جهة أخرى.
الخجل من الهوية الفكرية اليسارية وبروز ظاهرة الخطاب الديني في الجبهة
شكلت الحالة العامة التي وجدت الجبهة نفسها فيها بعد أوسلو حالة تخبط وإحباط على كافة المستويات التنظيمية انعكست في الهوية الفكرية للأعضاء والحزب عموما. فقد بدأ من السهل ملاحظة توجهات دينية على الصعيد الفردي بعد أن كان يتفاخر الأعضاء بماركسيتهم لدرجة كبيرة ويحاولون إظهارها في البعد الديني الإلحادي. كذلك فقد أصبح من الملحوظ تداول الشعارات الدينية وخاصة في الانتفاضة الثانية عام 2000 وتحديدا في صور الشهداء وفي محاولة تقليد حركة حماس والجهاد الإسلامي في نمط العمليات الاستشهادية حيث كان الفدائي يقوم بتصوير وصيته والتي كانت كثيرا ما تحتوي على عبارات دينية كما في وصية الشهيد " محمد معين السكافي"  من قطاع غزة على سبيل المثال. حيث نلحظ البعد الديني في كلماته وفي تقديم الفيديو الذي بثته الجبهة الشعبية للشهيد وهو يقول رسالته الأخيرة كوضع صورة المصحف وكتابة آيات وعبارات دينية بينما يتوشح الشهيد باللون الأحمر الذي يرمز لليسار والماركسية. كذلك في " بوسترات " او صور الشهداء الجبهاويين حيث يعتلي الصورة في كثير من الأحيان آيات قرآنية والبسملة . هذه المشاهد لم تكن مألوفة في أدبيات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تاريخيا ولكنها بدأت في التمظهر الجدي وبشكل دائم في مثل هذه المجالات لتعبر عن معاني كثيرة تسقط نفسها على البعد الفكري التقدمي الذي لطالما نادت الجبهة به وحاولت تعزيزه في عناصرها من خلال التربية الحزبية الصارمة على الثقافة الماركسية المادية العلمية. أضف إلى ذلك العدد المتزايد للأعضاء الحزبيين الذين يواظبون على أداء الشعائر الدينية كالصلاة والصوم في رمضان وقد سألنا كادرا حزبيا عن ذلك فقال : " أنا شخصيا بدأت بالصلاة وكنت انتقد المصلين من الرفاق وأناقشهم بعدم جدوى ذلك، ولكنني الآن أصلي وأصوم واذهب للمسجد وزوجتي وبناتي يرتدين الحجاب ومع ذلك فنحن نعتبر أنفسنا أعضاء في الجبهة الشعبية " . وعند سؤاله عن ما إذا كان في ذلك أي تناقض مع مبادئ الحزب الفكرية؟ قال " نعم اعتقد أن ذلك يناقض الفكر المادي العلمي الذي تربينا عليه  ولكن المجتمع اكبر من ذلك ولا يمكن مواجهته كمجتمع محافظ بإنكار قناعاته، كذلك على الحزب أن يساير الجماهير ويحاول أن يرضيها " .
هذا كان جواب لقيادي ومثقف من الجبهة الشعبية  الأمر الذي يوضح مدى الخجل من الهوية الماركسية وتصاعد الخطاب الديني في صفوفها، بحيث يتم تبرير ذلك بمسايرة المجتمع ومحاولة التماهي معه فكريا وثقافيا في حين يتم الحديث عن إعادة الاعتبار للهوية الفكرية اليسارية التي تقوم على أسس الماركسية وتحديثها في داخل الأطر الرسمية للجبهة. كما يظهر حالة التخبط وعدم القدرة على ضبط الاتجاه الفكري بسبب الشعور بالاغتراب عن المجتمع التقليدي.
من أسباب تصاعد الخطاب الديني في صفوف الجبهة الشعبية:
ليس من السهل حصر الأسباب التي تؤدي إلى ظاهرة اجتماعية سياسية معينة، فالحزب السياسي هو حصيلة لتفاعلات اجتماعية تنبض من مجتمع كامل وهو يتفاعل معها وفيها بالعقل الجمعي لأعضائه وقيادته.  وبالتالي فان تنامي ظاهرة أو خفوتها وتحديدا الظواهر الفكرية والثقافية في هذا الحزب أو ذاك هي في جزء كبير منها امتداد لتناميها آو خفوتها في المجتمع الفاعل فيه هذا الحزب أو ذاك. ومع هذا فان المرء ليستطيع أن يضع يده على بعض الأسباب النسبية التي يختلف معه فيها البعض ويتفق البعض الأخر.  إلا أن الظاهرة موضوع النقاش والبحث تكون سيدة الموقف وهي التي تعطي الحكم على مصداقية الأسباب او عدمها .
ومن الأسباب التي أدت لتصاعد الخطاب الديني في الجبهة الشعبية وغيرها من أحزاب اليسار الفلسطيني يمكن إدراج الأتي :
1- عدم تبلور هوية يسارية منذ البدايات الأولى لدى الأعضاء والقيادة بنفس المستوى فقد كانت أحزاب اليسار عموما، عبارة عن شباب متحمس بعد هزيمة المشروع الرسمي العربي في حرب ال 67 بحيث اعتبرت نفسها يسارية دون أن يكون لها جذور طبقية أو حاضنة شعبية تتوفر فيها شروط وجود اليسار كباقي مجتمعات العالم .
2- لم تستطع الجبهة الشعبية أن تتبنى الماركسية بشكل جذري بحيث بقيت تتراوح كتابع للأنظمة الماركسية العالمية بشتى اختلافاتها، ففيها كان يوجد التيارات الماوية واللينينية والتروتسكية والجيفارية أيضا. إضافة لوجود عدد كبير ممن لا يؤمنون بالفكر الماركسي كفكر علمي وكانت ارتباطاتهم الاجتماعية والثقافية التقليدية أقوى من قناعاتهم الفكرية.
3- الأهم هو عدم توفر بيئة وأساس اقتصادي يلائم ظهور فرز طبقي ليكون ساحة لنشوء الصراع الطبقي الذي يعد احد أهم تجليات الماركسية، فقد كانت الساحة الفلسطينية تهتم بالدرجة الأولى بالخلاص من المحتل وهذا وحده غير كافي ليشكل حاضنة لليسار لأنه من الممكن لأي كان أن يعتبر نفسه مقاوما لمشروع الاستعمار الصهيوني الذي لم يفرق بين الشرائح الطبقية كونه استعمارا إقتلاعيا لكل فئات الشعب الفلسطيني.
4 - عدم وجود اقتصاد فلسطيني ذاتي منع تشكل طبقة عمالية من جهة، ومحدودية الزراعة وبقائها في إطار العائلة الأبوية وغياب الملاكين الكبار للأراضي وتوزعها والاعتماد على اقتصاد الكفاف الذاتي للعائلة لم يخلق طبقة فلاحيه واضحة ترفع مطالب نقابية وتسمح  لليسار بتمثيلها اجتماعيا وسياسيا.
5- استمرار الثقافة التقليدية التي اتسمت بكونها ثقافة بطركية تقوم على الولاء للبعد القبلي التقليدي في قطاعات واسعة من الريف الفلسطيني.
6- انحسار القوة السياسية لمعسكر اليسار العالمي أدى لفقدان الثقة بالفكر الماركسي عموما لدرجة وصلت إلى الخجل من الهوية الماركسية ومحاولة التماهي مع الثقافة المجتمعية المحافظة بردة فعل عكسية تجلت في إبراز خطاب شبه متدين لإرضاء الجماهير وفي محاولة للدفاع عن الذات أمام الاتهام بالإلحاد والكفر .
7- غياب التثقيف الحزبي الصارم الذي اعتادت الجبهة عليه والذي كان يستمر لستة شهور وفي أحيان أخرى لسنة للعضو قبل أن يصبح عضوا حزبيا فاعلا، بحيث يتم في هذه المدة شرح الفكر الماركسي كنظرية علمية مادية بعلاقتها مع الدين والمجتمع والثورة من ضمن مواضيع أخرى تثقيفية يتم تدريسها للعضو المتدرب . هذه الآلية التي فقدت في تجنيد العناصر سمحت لخلق حالة وصلت في أحيان كثير لانضمام عناصر متدينة للجبهة أضفت خطابها الديني عليها داخليا وخارجيا.
8 - حالة الإحباط العامة التي تسود الشارع الفلسطيني والتي تتسم بعدم الاهتمام بالقضايا العامة المصيرية والبحث عن الخلاص الفردي وتغلغل ثقافة الاستهلاك والانا وطغيانها على ثقافة المجموع أدخلت القوى اليسارية في متاهة صعبة لإثبات الذات .
خاتمة
ليس من السهل كما ذكرنا سالفا أن نرصد الخطاب الفكري لحزب مثل الجبهة الشعبية دون أن ننظر إلى سلوك أفرادها وندرسهم بشكل مباشر، والسبب في ذلك يعود لغياب بنية تنظيمية واحدة تسمح بوجود خطاب فكري وسياسي واحد موحد . فمظاهر الضعف في هذه البنية الفكرية كانت متفاعلة جدليا مع الضعف التنظيمية بحيث تأثرت بها وأثرت عليها. كما أن الحالة العامة لليسار الفلسطيني والتي تتصف بالجمود وعدم التجديد تسمح بتنامي الاتجاهات الدينية الأقدر على تفسير الواقع وإعطاء الحلول حتى لو كانت غير علمية في الغالب للمشكلات المجتمعية كونها اقدر على ملامسة وجدان الشارع.
وختاما، فإن تناول تصاعد الخطاب الديني لا يمكن فهمه دون النظر إليه كتصاعد شامل في المنطقة العربية عموما كخطاب ديني سياسي بكل تفرعاته، وهذا المد الشعبي الذي يلتف عليه سواء الخطاب الأصولي السلفي  أو الخطاب الإخواني الذي يحاول الاعتدال تحت شعارات الواقعية السياسية  بالضرورة سيؤدي إلى ملئ الفراغ الذي خلفه غياب فكر يساري حقيقي بمقدوره الإجابة عن تساؤلات المرحلة وتقديم الحلول لها. هذا الغياب الذي سمح بتقسيم الهوية الفكرية في الساحة العربية عموما لتيارين بعينهما تيار متدين يحاول الإمساك بالحكم والسلطة  من جهة وأخر ليبرالي مرتهن لسياسات التبعية والتخلف ويدور بفلك الامبريالية العالمية .
وفي مقابل كل ذلك لم تتمكن أحزاب اليسار من الابتعاد عن النقاش في الدين ببعده الاجتماعي كفاعل اجتماعي دون الخوض في المسلمات الدينية الميتافيزيقية التي يقوم الدين عليها . وبالتالي كان هذا النقاش وسيلة لتعميق النظرة السلبية ضد الجبهة كتيار منافي للقيم والإيمانيات الروحانية للمجتمع الفلسطيني، مع عدم قدرتها على تبني خطاب يساري يطالب بتحقيق شعارات اليسار ويترجمها بشكل عملي كالعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحرية المرأة بل بقيت مثل هذه الشعارات عبارة عن جمل جوفاء لا تحمل مضامين فعلية على ارض الواقع.
هذه الحال تعطي مؤشرات على ضرورة بناء التيار الثالث بصيغ جديدة تكون مستمدة من الفكر اليساري التقدمي الحقيقي القائم على أساس علمي والنابع من ظروف موضوعية تسمح بتطوره تتوفر معها ظروف ذاتية قادرة على التجديد والإبداع والإمساك بالوعي النقدي الثوري المنظم. ودون ذلك فالهوية اليسارية سواء للجبهة الشعبية أو لغيرها من قوى اليسار العربية والوطنية سيبقى مجرد أمال وطموحات لا أكثر وإنتاجا نظريا غير قادر على التبلور دون إيجاد الرافعة التنظيمية التي تترجمه لواقع قادر على التغيير الاجتماعي عموما.