عصر التّيـــــه

بقلم: 

من أبرز مخرجات عصر الحداثة التي مُنِيت بها مجتمعاتنا، تلك التوليفة الدينيّة الدنيويّة المعقدّة التي لم تدع شأنًا من شؤون الإنسانية إلا عبثت به.
وتسود في مجتمعنا الحديث حالة من التفكيك القِيَمي المخيف، وتولّدت هذه الحالة التي أصبحت عشوائيتها سمة مجتمعية بفعل مزج المفاهيم والقيم الطارئة على المجتمع مع الموروث القيمي الأصلي لهذه المنطقة بغثّه وسمينه، فولد من رحم ذلك الالتقاء مولودًا مشوه المعالم مبتور الأطراف يدعى "ما بعد الحداثة العربية".
مجتمعات لم تحيا التجربة الاجتماعية الثقافية السياسية بكافة سياقاتها وسيروراتها التاريخية التي عاشتها المجتمعات الأخرى لكنها استعارت ثوبها الحداثي، فمثلها كمل طفلة استعارت ثوب امرأة ناضجة وحذاءها وقبعتها، وعندما ارتدت الطفلة ثياب تلك المرأة سقطت مع أولى خطواتها على الأرض، لأنها لم تنضج بعد ولم تبلغ حجم تلك المرأة وعمرها.
وهذا التعثر هو شكل الحداثة وما بعد الحداثة في أرضنا ومجتمعاتنا، نعم لقد خانتنا الأوصاف والمسميات والمفردات للتعبير عن هذا الواقع المشوّه قلبًا وقالبًا، فأصبحت مجتمعاتنا لا هي مجتمعات "تعاقدية" قائمة على مأسسة العلاقة بين الأفراد بعضهم ببعض، وبين الأفراد والدولة، مستندة على إلغاء الأدوار الاجتماعية الأخرى كالأسرة التي هي نواة المجتمع، ودور العبادة كمؤسسات مساندة للدور المجتمعي الأول، مع التمسك بسيادة القانون الوضعي في أدق التفاصيل بوصفه الناظم الضابط لكافة العلاقات السابقة. ولا هي بقيت مجتمعات "تراحميّة" قائمة على محوريّة الدور الجماعي في تربية الفرد ومراقبة سلوكه وأفعاله متمثلة بقدسية النواة المجتمعية الأولى وهي الأسرة تُعاضِدها دور العلم والعبادة، مستندة على منهجية الاحتكام إلى القانون السماوي.
هذه الحالة ليست بالخبر الجديد، لكن مظاهرها زادت في الآونة الأخيرة، فقد أصبح المراقب للواقع المجتمعي برمّته يلاحظ يوميًا توالد أشكال جديدة من الولادات المشوّهة لما يسمى تزواج الحداثة بمفهومها الغربي مع الواقع العربي بموروثاته الكاملة، حتى أصبح الشكل العام للمجتمع أفرادًا ودولة هو "الانفصام الكلي".

النموذج الغربي ليس "تعاقديًا" في كل جوانب الحياة ومجالاتها لأن التعاقدية الكاملة تعني انهيار المنظومة الأخلاقية تمامًا، ولا يمكن لأحد الادعاء أن هناك إلغاء كامل للأخلاقية أو "التراحميّة" في مجتمع من المجتمعات مهما بلغت ماديّته، ومهما بلغ تشبّعه بالنماذج المادية في الحياة العامة، لكن تبقى سمته العامة تعاقدية.
وكذا بالنسبة للمجتمعات "التراحمية" التي توصف المجتمعات العربية تاريخيًا بأنها الأقرب لها، لا يمكن الادعاء بأن كل سلوكاتها وتحركات أفرادها تندرج ضمن التراحميّة التكافلية، وإلا فلا يمكن أن تستمر تلك المجتمعات بل سيكون مصيرها – عمليًا- الاندثار، إلا أنها هي الأخرى تبقى ذات سمة تراحمية.
إلا أن مجتمعنا العربي تطوّر ضمن حالة من عدم الاستقرار على سمة عامّة، فغدا كمخلوق لا اسم له ولا يستطيع التعرف إلى ملامحه وإن نظر إلى المرآة كل لحظة. ولذلك فحالات المخاض السياسي فيه لا ينتج عنها ولادات لسلوك سياسي مستقر، بل إنها – وبشكل غريب- تنتج مخاضات جديدة أكثر عسرًا وألمًا. ولا أدل على ذلك من حالة الحراك التي عرفت باسم الربيع العربي في السنوات الأخيرة، والتي كانت ولا زالت تنتج حالات سياسية واجتماعية أشد عسرًا من سابقاتها، رغم أن حالة التغيير عند وصولها نقطة حرجة متمثلة بالحراك الجماهيري يفترض أن تكون الخطوة النوعية التي تؤسس لمرحلة جديدة واضحة المعالم لما بعدها.
النظام السياسي عربيًا في كل دولة غير قادر على مأسسة السلوك السياسي بحيث يعبر عن دولة لا عن أفراد "منتخبين" فقط يقود كل منهم البلاد على نحو قد يتناقض 180 درجة مع من قبله وفق اتجاهات وأيديولوجيات فردية وحزبية بحتة.
والنظام الاجتماعي عمومًا يعتريه السلوك المتناقض حتى في الفئات والشرائح الاجتماعية المتشابهة بنيويًا، وفي السنوات القليلة الماضية أدّى الانشغال بالأحداث السياسية المتعاقبة محليًا إلى تجاهل الفجوة الاجتماعية الرهيبة التي يعيشها المجتمع، وأظن أننا ندخل في الحقبة الفكتورية دون أن نعي أبعاد ذلك، ففي الإقليم الواحد تتفشى الطبقية نتيجة غياب مفهوم المجتمع التكافلي التراحمي في مجتمع لا يحتمل تاريخيًا ولا جغرافيًا ولا إثنيًا تلك الطبقية المزروعة فيه إكراهًا، وكذلك تشكّل حالة الانسلاخ عن النسيج المجتمعي خاصة في التجمعات الحضرية الكبيرة (العواصم والمدن الكبرى غالبًا) ولا بد من التنويه إلى الفرق بين التعددية كمناخ صحي لتطور المجتمعات وإثرائها ثقافيًا وحضاريًا وبين حالة التفكيك وخلق التناقض وعدم الانسجام في السلوك الاجتماعي العام ككل.
وعلى صعيد الإطار المرجعي للمجتمع فالصورة قاتمة تمامًا، فلا هو علماني الفكر والسلوك، ولا هو إسلامي الفكر والسلوك، ولا هو يساري، ولا شيوعي، ولا راديكالي، ولا نفعي ذرائعي. هو باختصار هذه كلها مجتمعة مع بعضها في توليفة غريبة معقدّة تمامًا تحيّر عقول علماء الاجتماع ومفكريه.
في النهاية يمكن القول أن "الحداثة" المستوردة وصلت بهذا المجتمع أن يكون لكل فرد فيه مجتمعه الخاص وقانونه الخاص وعالمه الخاص، بحيث يضع لنفسه قوانين نفسه رغم أن الفرد لا ينفك ينزع للحالة الجماعية التي ينتمي إليها مجتمعه، إلا أن التفرد والفردية هو السمة الغالبة يعززها العصف الإلكتروني، والشعور بـــِ"الحرية" المتمثلة بالتحلل والتفلّت من كافة القيود والضوابط والقواعد.