انتهى عامٌ وجاءَ آخر؟ "بيصير خير"

بقلم: 

بيصير خير... هذه الجملة المحببة المؤلفة من كلمتين. عند رابين لها معنى آخر!!

بمناسبة انتهاء السنة، ونحن على أبواب سنة جديدة، أود مشاركتكم بكلماتٍ،  أظن أنه من غير الممكن المرور عنها بحياد، وهي جزء من خطاب نادر، سأحدثكم عنه بعد بضعة سطور. بدايةً علينا قول الحقيقة وإن كانت مُرة، وفي الوقت المناسب. وكما اعتاد الشيخ النابلسي القول: "الحقيقة المُرة أهون ألف مَرة من الوهم المريح". لقد صدق، وما أكثر الأوهام في زماننا...
عادةً ما يلجأ الإنسان إلى استخلاص العبر وجرد الحساب، وفي نهاية هذا العام ينشغل الفكر في أسئلة كثيرة على سبيل الوقوف مع الذات، لعل أبرزها: أين نقف الآن؟ ماذا أصابنا؟ لماذا؟ وأين المفر وكيف الخلاص؟؟ وفي هذه المرة، ربما يكون حساب الذات مختلف قليلاً، وهو محاولة التعلم من الخصم، استخلاص العبر من الطرف الآخر. ليس سهلاً أن تنظر وترى النجاحات والازدهار في مجالات عديدة عند عدو يحتل أرضك، هذا مؤلم، وهذه حقيقة مرة، فيها دروس، وهي أهون من الوهم المريح!
من خلال اختصاصي كباحث ومتابع للشؤون الإسرائيلية وقضايا الرأي العام وصنع القرار في المجتمع الإسرائيلي، أقوم بمتابعة المستجدات الأخيرة المتمثلة بحل الكنيست الإسرائيلي والتحضير لانتخابات جديدة بداية العام القادم، وبينما كنتُ أبحث عن جواب لسؤال، وصلتُ إلى خطابٍ نادرٍ لرئيس وزراء إسرائيل السابق يتسحاق رابين، والخطاب من حفل تخريج دورة ضباط في مدرسة الأركان والقيادة في الجيش الإسرائيلي، عام 1992، حيث شغل رابين منصب وزير الدفاع ورئيس الحكومة في آن واحد، علماً أنه كان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حرب حزيران عام 1967، والتي احتلت فيها إسرائيل ما تبقى من فلسطين المحتلة عام 1948م وأجزاء من سوريا والأردن ومصر، وذلك في مواجهة لم تتجاوز الأسبوع الواحد! فهل كلمات الخطاب مهمة حين يتكلم شخص مثل رابين؟
هذا الخطاب عُرف حينها باسم خطاب ال" بيصير خير" بالعبرية: יהיה בסדר(يهيي بسيدر). لقد اكتسب الخطاب أهميةً بعد اغتيال رابين، ونشره أرشيف الجيش الإسرائيلي كاملاً للجمهور في الذكرى الأخيرة للاغتيال، ولعل المتحدث أظهر قدرةً على تشخيص الحال وتوقع الأخطار قبل حدوثها، من خلال بُعد النظر، ومن ملاحظته  لبداية ظهور أعراض اجتماعية سيئة قد تكون عواقبها وخيمة لاحقاً.

لقد قمت بترجمة الجزء المختار من الخطاب، مع مراعاة ترجمة الكلمة دون تشويه المضمون، ولأن الخطاب مطول، فقد قمت بأخذ الجانب الذي يتناول واقعاً اجتماعياً تربوياً مقلقاً يلقي بظلاله على الوضع السياسي الأمني للكيان الإسرائيلي. علماً أن عبارة "بيصير خير" التي تُعتبر عنواناً للخطاب هي ليست بمعناها الإيجابي المتمثل بالتفاؤل والأمل، بل قصد رابين بها التهاون والتقصير وغياب المسؤولية!
خطاب (بيصير خير) لإسحاق رابين في حفل تخريج دورة ضباط في مدرسة الأركان والقيادة التابعة للجيش الإسرائيلي/ 1992م
"...لواحدةٍ من أكثر المشاكل التي تؤلمنا، وهي معروفة ولها اسم، يوجد لها اسم شخصي واسم عائلة! وهو تلازم الكلمتين: بيصير خير! إن اندماج هاتين الكلمتين اللتين يسمعهما كثيرون في حياتنا اليومية هو اندماج غير محتمل. هذا الثنائي: "يصير خير"، غير محتمل!
ومن وراء هاتين الكلمتين يختبيء عادةً كل ما هو ليس بخير: التهور، والمبالغة في الثقة بالنفس، الغرور والهيمنة التي لا مكان لها. جملة: بيصير خير... ترافقنا منذ سنوات وهي مؤشر على بيئة تصل حدود انعدام المسؤولية في كثير من نواحي حياتنا.
(بيصير خير... إنها تلك الطبطبة الصحبجية على الكتف... وغمزة العين ذاتها مع عبارة إركن علينا)! كلها إشارات على قلة الخير وانعدام الطاعة، وغياب التميز والاحتراف، ووجود الكسل والخمول. إن بيئة التهاون وثقافة (عالماشي) لأسفي هي إرث قطاعات واسعة في مجتمعنا، وليس فقط داخل الجيش.

إن ثقافة ال "بيصير خير" تنهش لحمنا بوحشية. ولقد تعلمنا في الماضي من دروسنا القاسية والمؤلمة أن "بيصير خير" هي دليل على أن هنالك الكثير من الأشياء ليست على ما يرام!
ليست لدينا موارد طبيعية، وأنتم ثروتنا البشرية، أنتم الجيل المسؤول الذي يشعر بالإنتماء، وتستطيع هذه الدولة القلقة الاعتماد عليكم، لأنها تعرف أن مستقبلها موجود بأيادٍ أمينة. أتوقع منكم تحمل المسؤولية، فصلاحياتكم واسعة، إن حياة كثيرين من الناس بين أيديكم، ومستقبلهم كذلك. مسؤوليتكم مطلقة وقاطعة، وهي تتوقف عندكم... لا تنظروا وراءكم فلا يوجد ما هو أهم وأثقل من تحمل المسؤولية عن مستقبل الآخرين وحياتهم..."
   انتهى خطاب رابين بهذه الجملة السابقة. وأترك التعليق لكم، لا نهاية للأسئلة والتي قُدر لها في عالمنا العربي أن تولد وتموت بدون إجابة: كيف يبني القادة الدول؟ كيف يحافظون على مكتسبات أمتهم؟ ولماذا يخصص رئيس حكومة ووزير دفاع في دولة بلغت ذروة القوة في كثير من مجالات الحياة لماذا يخصص نصف خطابه للتعليق على كلمتين: بيصير خير؟؟؟
أخجل من ترجمة الخطاب ونقله نظراً لحالنا، وأشعر بالغيرة والحسد، ولكنها الحقيقة المُرة التي يجب أن تُقال في وقتها.. وهي أهون ألف مرة من الوهم المُريح. إن سُنة الحياة ثابتة لا تتبدل: لكل مجتهد نصيب، وسواء أكان الاجتهاد في الاتجاه الصحيح أو الخطأ فإنه لا بد لنا من قطف ثمار ما زرعنا...
كل عام وأنتم بخير. لعلنا نحظى بعامٍ مبارك وآمن، وأتمنى أن "يصير الخير" في صفوفنا فعلاً لا قولاً!
القدس/ 26-12-2014