الضغوط والوهم في الخلاف بين «حماس» وسورية
يقول أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" في رده على ما قاله الرئيس بشار الأسد أثناء لقائه بوفد من الجاليات الفلسطينية المودودة في أوروبا والتي اتهم فيها "حماس" بالتآمر على بلده بالتنسيق مع حركة الإخوان المسلمين السورية "شهادة لله وللتاريخ، فإن الأخ أبو الوليد في تقييمه لتلك المرحلة كان يلوم فيها الإخوان المسلمين السوريين في عدم تجاوبهم وخلافهم مع النظام، وليس كما ذكر الرئيس".
مشكلة الطرفين، "النظام السوري" و"حماس" في أنهما يحاولان أن يقنعا الجمهور بأن موقف "حماس" كان ثابتاً منذ بداية الأزمة السورية والى اليوم. الأول يريد إظهارها كمن تآمر على "اليد" التي حاولت مساعدته عندما طُردت قيادات "حماس" من الأردن. والثاني يريد الادعاء بأن مواقفه كانت دائماً مبنية على حسابات مبدئية لا علاقة لها بمصالحه الإستراتيجية ولا بالظروف الإقليمية المفروضة عليه.
شخصياً أصدق ما قاله الأسد إن "حماس" في بداية الأزمة السورية كانت متطرفة أكثر من النظام وإنها رأت مؤامرة على "محور المقاومة" يجب وأدها في مهدها. هذا لا يعني أن التقييم لأحداث درعا كان موضوعياً، لكنه يتسق ومصالح "حماس" في تلك الفترة. لماذا؟
الأصل أن التغير الذي حدث في تونس ومن ثم في مصر كان لصالح القضية الفلسطينية ولصالح دعم مشروع المقاومة. بعد التغير الذي حدث في مصر كانت إسرائيل في أسوأ أوضاعها التاريخية منذ العام 1948. محور للمقاومة على حدودها الشمالية والجنوبية، علاقات عدائية مع تركيا وإيران، وبداية نهاية تحالفها مع النظام المصري بما له من مؤشرات على دخول مصر كطرف داعم للمقاومة. "حماس" في هذه المرحلة كانت كمن فُتِحَ لها "أبواب السماء". لذلك لا نستبعد أن يقول خالد مشعل للأسد في بداية أحداث سورية إن ما يجري هو مؤامرة يجب إسقاطها ويتسق مع ما قاله أبو مرزوق إن "حماس" كانت تحمل إخوان سورية المسؤولية. هذا يتفق مع مصالح "حماس" في تلك اللحظة التاريخية. والحق يقال إنه يتفق أيضاً مع مصالح الشعب الفلسطيني عموماً.
ما جرى لاحقاً يختلف عن البدايات التي يحاول النظام السوري و"حماس" الإيحاء بأنها امتداد لمواقف "حماس" الأولى من الأزمة - النظام في ادعائه بأن "حماس" كانت بوجهين: تتآمر في السر وتظهر شيئاً آخر في العلن، "وحماس" بقولها إن مواقفها كانت مبنية على حسابات مبدئية لم تتغير وإنها لم تتدخل مطلقاً في الشأن السوري.
ما جرى لاحقاً هو تعرض "حماس" لضغوط من ثلاثة أطراف لم تستطع أن تدير ظهرها لهم لحسابات إستراتيجية تبين لاحقاً أنها مبنية على الوهم.
الأولى والأهم جاءت من إخوان مصر، أما الثانية والثالثة فقد جاءتا من تركيا وقطر. "حماس" كانت تعتقد أن التغير الذي جرى في مصر سيعزز محور المقاومة الذي كانت تشكل سورية فيه أحد أهم أضلاعه. لكن إخوان مصر لم يكن يهمهم محور المقاومة. كانت أعينهم على ثلاثة أطراف يجب إرضاؤها لضمان استمرار حكمهم: الجيش الذي لا يريد أي صراع مع إسرائيل والقادر (كما شاهدنا لاحقاً) على إسقاطهم بالقوة. أميركا التي كانت ترغب في أن لا يكون نجاح الإخوان في الانتخابات نهاية لعلاقات مصر بإسرائيل بما يحمله ذلك من مخاطر على الأخيرة ومن حالة لعدم الاستقرار في المنطقة. إرضاء أميركا كان يعني لإخوان مصر أنها ستقوم بوضع فرامل أمام الجيش لمنعه من تجاوز نتائج الانتخابات. وإرضاء دول الخليج التي ستوفر لحكومة الإخوان المسلمين الأموال للنهوض بالاقتصاد. هذا الموقف المنحاز من إخوان مصر (للجيش وأميركا ودول الخليج) كان يتطلب الضغط على "حماس" للخروج من سورية لإظهار قدرتهم أمام هذا "المثلث" على التأثير في الأحداث في الإقليم ولإظهار مصداقية لتوجهاتهم السياسية الخارجية.
الضغوط على "حماس" للخروج من سورية لم تكن من إخوان مصر وحدهم ولكنها أيضاً أتت من الطرفين التركي والقطري. تركيا رأت في الأزمة السورية فرصة لتغير النظام بآخر حليف لها ويعتمد عليها، لذلك فتحت حدودها لكل من يريد محاربة النظام السوري. لإظهار عزلة النظام السوري ولحرمانه من الادعاء إن ما يجري هو حرب على المقاومة، قامت تركيا بالضغط على "حماس" للخروج من سورية.
ترافق ذلك مع الضغوط القطرية (والخليجية عموماً) والتي كانت تمارس على "حماس" للخروج من سورية بهدف إظهار الصراع فيها على أنه طائفي بين "السنة والشيعة" وأن خروج "حماس" السنية منها يعزز هذا الانطباع ويعطي دفعة لدخول المزيد من "المجاهدين" للأراضي السورية لمحاربة النظام وإسقاطه. الفكرة هنا بسيطة لكنها كارثية بكل المقاييس: النظام بلا "حماس" السنية المقاومة يمكن عزله وإنهاؤه حتى لو تواجد معه حزب الله المقاوم لأن التهمة جاهزة - شيعة.
بالطبع ليس في كل ذلك مصلحة فلسطينية أو عربية لا من قريب ولا من بعيد. هل كان بإمكان "حماس" مقاومة هذه الضغوط ورفضها. قناعتي الشخصية بأن "نعم" كان يمكنها رفض الضغوط وكان عليها أكثر من ذلك أن تكشف للرأي العام هذه الضغوط لكن للوهم فعله الساحر.
"حماس" التي كانت تأمل بأن سقوط نظام مبارك يعني دفعة لمحور المقاومة وجدت نفسها أمام وضع جديد لم يكن في حساباتها. بفعل الضغوط التي مورست عليها والوهم بأن ما جرى في ليبيا من تدخل خارجي سيتم تكراره في سورية وإسقاط النظام فيه، فضلت أو بشكل أدق، فضل بعض قياداتها، الخروج من السورية والانحياز للمحور المصري (الإخواني) - التركي - القطري. لعل مصر بعد عدة سنوات وبعد ان تقوى شوكة الإخوان فيها تكون خط الإمداد الحقيقي الداعم للمقاومة. لعل الخروج من سورية يظهر حسن نية يمكن استثماره في تمتين العلاقات بالمحور الجديد الذي سينهي حصار غزة ويفتح الطريق أمام "حماس" لعلاقات أفضل مع الغرب. لعل هنا حقيقة "كثيرة" لكن الفكرة هي أن الضغوط على "حماس" ترافقت مع أوهام كثيرة لدى بعض قادتها قادتهم إلى اتخاذ قرار الخروج من سورية.
هذا لا يعني بأن النظام السوري لم يمارس الضغوط على قيادات "حماس" لإظهار تأييدهم له، لكن هذه الجزئية لم تكن سبب خروج "حماس" من سورية. هل كان بإمكان "حماس" أن تختار طريقاً آخر؟
قناعتي بأن "حماس" لم تر في كل ما يجري في سورية صراعاً طائفياً، وأن حساباتها كان يجب أن تكون أكثر مبدئية وأكثر فلسطينية وكان عليها أن ترفض الضغوط التي مورست عليها وكان عليها، وهذا هو الأهم، أن تحارب فكرة أن الصراع في سورية هو بين السنة والشيعة بالقول والعمل لأن هذه الفكرة لا تعني فقط تمزيق الدولة السورية وحدها ولكن لأن فيها إضعاف لحليفها الأهم وهو حزب الله وفيها تغير لطبيعة الصراع في الإقليم من صراع بين العرب وإسرائيل إلى صراع بين العرب أنفسهم وبينهم وبين وإيران.
الفأس كما يقال وقعت في الرأس. لكن شكر الناطق باسم كتائب القسام لإيران على دعمها للمقاومة بالمال والسلاح وتوجه وفد من "حماس" لزيارة إيران، وحتى الرد "الخجول" من أبو مرزوق على اتهامات الأسد فيه مؤشر إيجابي على عودة "حماس" لمواقعها ومواقفها القديمة. لكن لتعزيز هذا التوجه يجب ألا تخجل "حماس" من ممارسة النقد الذاتي علناً، وفي أبسط الحسابات على قادتها ومفكريها أن ينخرطوا في محاربة الصراع الطائفي الذي يهدد بلاد الشام وأن يتوقفوا عن مسك العصا من المنتصف في هذا الموضوع تحديداً. في تقديري أن انخراطاً فكرياً كهذا، هو المؤشر الحقيقي على أن "حماس" قد راجعت حساباتها وأن تغيراً جدياً قد حدث في توجهاتها.
ليس في هذا الموقف وقوف مع محور ضد آخر. لكن فيه وضوحاً للرؤية بأن استمرار الصراع المذهبي يشرذم العالم العربي ويمزق دوله، ويغير عنوان الصراع، ويضعف حلفاءها، ويمكن دولة الاحتلال من حسم الصراع لصالحها.