ماذا يتبقى من صورة السجن بعد أربعين عاماً؟

بقلم: 

في البدء لا يفصح السجن عن تشكله المادي أو صورته وهيئته، وبالرغم من كونه خشناً وصلباً بل وفظاً ومتعدياً وهو بهذا المعنى ذكوري خالص، إلا انه لا يكشف عن محتوى جماع صورته وتكوينه في العلن، وأنما تحت ستار يشي بالخفاء. إن في معالم الهندسة المعمارية لبناء السجون ما يستدعي هذه النزعة السرية الآثمة كمن يحاول إخفاء شيءٍ مؤذٍ للشعور العام، باعتبار السجن في الأصل هو الأداة الأكثر هولاً في التعبير عن عنف الدولة واحتكارها، هذا العنف على حد سواء. انه غالباً رصاصي اللون على شاكلة اللون الرمادي لرداء الكاردينال يشيلو الفرنسي الشهير زمن لويس الرابع عشر، الكاردينال القاسي والداهية. ولعله في زمن هذه العينة من رجال الدين في عصر ملوك قساة ومستبدين، تم تشييد وبناء أول أشكال السجون السرية التي كانت تتخذ من سراديب مظلمة في القلاع، صورتها التي ترتجف من هولها الأبدان.
انه سجن في مهاد عمر الطفولة لا صورة له إلا ما يمكن أن يتقمصه الخيال. ان مجمع البنايات الضخم والذي يقع وسط مدينة غزة بسور من السياج شبه العاري او المكشوف، ويبدو كمكان أليف للرائي أو المارة بلونه الأصفر، لا يبدو وكأنه وراء هذا المظهر الخارجي يضفي أية دلالة من الرهبة أو الخوف من المكان، أو هكذا حينما كنا ندخل من بوابته في أوقات متفاوتة لم يكن يستوقف انتباهنا وفضولنا سوى الزي المميز لجنود الحرس الجمهوري المصري ببنادقهم البلجيكية القديمة، حينما يرفعون بنادقهم إلى الأعلى ويهتفون بصوت عال اللازمة المكررة دوما "كتفا سلاح".
يوقف والدي الذي يرتدي اللباس العربي القديم بالحطة البيضاء التي تغطي الرأس والعقال الأسود الجيب الأخضر اللون، قبل أن نترجل للدخول من البوابة الرئيسية للمبنى ثم نصعد درجاً عريضاً لا يخفي تقادمه وان كان يكشف من الاعتناء بنظافته، وقطعة بديعة من الرخام تكسو جوانبه ظلل نقاءها تقادمُ السنين، ما يشي او يذكر الصاعدين بالرفعة المهيبة والخصوصية للمكان.
هنا يقتفي الحكام الجدد الحكام السابقين كما يسير الفاتحون والغزاة الجدد اثر الغزاة السابقين. وهكذا سوف يرث الحكام المصريون الحكام البريطانيين، ويتخذون من نفس المقر مجمع السرايا مقراً لإدارتهم العامة في حكم القطاع، وحين يخلف الاحتلال الإسرائيلي الحكم المصري فإنهم يتخذون من نفس المجمع مقرا لإدارتهم العكسرية. ولكن هذه المرة دون الإشارة إلى السرايا القديمة حين تسقط السرايا ويكشف السجن عن حضوره الفظ. وان هذا المكان سوف يختزل مجموعه إلى أن يصبح السجن.
إن الاحتلال والاستعمار ليس من طباعه او غريزته الخجل أو الحياء. هنا عند هذه اللحظة الفارقة سوف ينزع المبنى عن نفسه رداءه التنكري والرمادي القديم، ويفصح دفعة واحدة في الوعي والوجدان عن هويته وماضيه، ماض من سجن عكا الشهير وسجن غزة الجديد، ولقد ظللتُ لسنة ونصف السنة وقد اكتشفت السجن ووضعت يدي عليه او أمسكت به أخيراً، أحاول أن اجهد بذاكرتي لتحديد الإحداثية الجغرافية أو المكانية التي يقع فيها ضمن خارطة المكان، ولكني فقط بعد ان أعاود زيارته بعد عشرين عاماً بصحبة عبد الرحمن عوض الله مدير عام الامتحانات، لمراقبة سير امتحان نزلائه للثانوية العامة، سوف أتبين هذه الإحداثية.
لقد كان يدفعني فضول لا حدود له عندما عدت لأن ازور المكان، فهنا أنا أيضا قدمت لامتحان الحصول على شهادة الثانوية قبل أربعين عاما، وقد حاولت ان استدل آنذاك عما بقي من صورة السجن بعد عشرين عاماً، وها أنا أحاول طرح السؤال مجددا عما تبقى من صورة السجن بعد عشرين عاما، وحين يبدو الماضي وقد توغل عميقا في العمر لا يدع لنا بقية من الوقت لننأى عن دوافع غامضة في كل مرة لاسترجاع قصته، ربما كنوع من محاولة الإمساك به واستحضاره لتجريده من الزمن كلحظة سردية لإعادة التعرف عليه في كل مرة.
هذا الشغف بالماضي الذي يكون اكثر تعبيراً عن دنونا من عتبة الشيخوخة، وحيث كلما أوغلوا أو طعنوا في السن يريدون استرجاع هذا الماضي، وحيث التفاصيل هي روح السرد القص. حين نحاول إعادة تفكيك هذا الماضي والعودة به إلى سرديته الأولى، وهكذا فان ما يتبقى من صورة السجن بعد أربعين عاما هو سرديته الأولى بالإحالة الى تفاصيلها، التفاصيل التي لا يقوى النسيان في استثناء هول تجربتها على محوها.
هكذا سوف يظل يوم السابع عشر من كانون الأول العام 1974 ماثلا أمامي، وحيث لحظة اقتيادنا إلى السجن والاعتقال هي اللحظة الدرامية الافتتاحية في هذه التجربة الشخصية أو الإنسانية، والتي تماثل في الحروب لحظة الصدمة والترويع، لشل القدرة والتوازن النفسي لدى العدو وبعد ذلك السيطرة عليه. أو ربما هي الصدى الذي يمكن الشعور به كإحساس بوقوع الواقعة من خلال الضربات القوية، مثل ضربات القدر التي توحي بها الطرقات العنيفة في افتتاحية السمفونية الخامسة لبتهوفن. وكان الإمام مالك العبقري يقول "لتدعها حتى تقع".
لكنني لم أكن محارباً أو حتى بطلاً بالمعنى والمفهوم التقليدي للمحاربين والأبطال، اذ اعتقلت في تلك الليلة وأنا اغط في نوم عميق في شتاء بارد وربما كنت أعاني من هذيان قليل تحت تأثير حمى الأنفلونزا، لكن ما إن أشهر ضابط المخابرات المسدس في وجهي وهو ينزع عني الغطاء ويطلب مني القيام وهو يقرب مسدسه الى انفي، حتى شعرت تحت تأثير الصدمة بزوال علة الجسد والمرض.
كان والدي هو الذي ينتظرني وحيدا أمام غرفة النوم ليودعني شاباً نحيف الجسم في التاسعة عشرة من العمر، بينما كان عدد من الجنود يتوزعون في فناء البيت وقد نصبوا سلالم على جدران البيت عند اقتحامه، كان والدي صامتا ولكنه رابط الجأش ربت على كتفي بيده ثم نزع عن رأسه طاقيته الصوفية وغطى بها رأسي، قبل ان يعصب الجنود عيني ويحكموا تقييد يديّ.
حين نبلغ موطئ السجن وترفع العصابة الثقيلة عن العين فإن أول ما يتراءى من السجن هو الأضواء الساطعة من داخله، التي تنتصب من كل ناحية للإضاءة عليه. وإن أول ما يسمع وحين تكون المعرفة الأولى عنه تأتي مباشرة من الحواس، هو أصوات الأبواب الحديدية التي تفتح وتغلق بأزرار كهربائية محدثة في كل مرة أصداء مرعبة ومخيفة. أما أول ما تتلقاه حاسة الشم فهو رائحة "الديتول" المنظف، والذي يستخدم عادة كسائل قوي للتعقيم والتنظيف وتطهير المكان من الحشرات. بعض وقت من الانتظار أمام جدار أصم قبل أن يأتي جندي يقودنا عبر الأبواب الحديدية التي تحدث الصدى المزعج في أصواتها، ندخل أخيراً من الحواشي الخارجية إلى السجن لنصعد بعد ان تستبدل ملابسنا القديمة بملابس السجن من ممرات جانبية معقدة إلى حيث غرف التحقيق المقامة فوق صفوف ممتدة من الزنازين لتبدأ من هنا السردية.
هنا عند هذا المقترب الرهيب من غرف التحقيق حين تخلي او تنزاح المعرفة الحسية القائمة على الحواس ليحل مكانها الإدراك المركب الذي يقوم علي العقل والشعور، فان السجن يفصح عن جماع حقيقته، باعتباره آلة شريرة لاستخدام العنف. وحيث يجب أن نتجه دوما الى السجون لمعرفة حقيقة وطبائع الاحتلال كما الدولة بالمطلق. وان هذه المعارك الصغيرة ولكن المستترة وغير المرئية والتي تجري قصصها غالباً في سراديب مغلقة بين أشخاص ضعفاء مجردين من أي قوة في مواجهة جلادين ذوي طبائع وحشية، إنما هي التي تختصر في الأعماق الدفينة والمظلمة للتاريخ البشري، حقيقة السردية الأكبر لبني الإنسان. عندما نعرف أن هذا الجزء الوحشي من تكوينه وليس الجزء الملائكي أو الإلهي انما هو الذي يجعل من هذا العار وصمةً أبدية لا يقوى كل هذا النفاق والدهان الدولاني عن الحداثة والمدنية على محوها. تقرير الكونغرس الأميركي الأخير عن التعذيب الذي مارسته الـ "سي اي ايه" شاهد اليوم. ولكن لنكمل القصة من هذا المقترب فيما بعد.

المصدر: 
الأيام