ثقافة التجريب في العقل السياسي الفلسطيني

بقلم: 

في الفكر الماركسي، سياسة الدولة هي في خدمة من يهمين على الاقتصاد فيها. في الفكر الليبرالي-الديمقراطي، سياسة الدولة هي تعبير عن إرادة الشعب الذي انتخب نوابه ورئيسه ووضع ثقته فيهم ليأخذوا القرارات نيابة عنه. في العقلية السياسية الفلسطينية، السياسة هي فن التجريب، وهو نوع من الثقافة يقوم على قاعدة إذا لم توصلنا هذه الفكرة أو هذا الطريق الى أهدافنا نقوم بتجريب فكرة أو طريق آخر. في السياق، لا يعي "المُجَرِب" بأن الفشل في كل مرة يضيف عراقيل جديدة في طريق الفلسطينيين لإنهاء الاحتلال ويرفع ثمن تكلفة الخلاص منه.
للإنصاف، هنالك عوامل إقليمية ودولية دفعت القيادة الفلسطينية لاعتماد طريق "التجريب" في السياسة لكن هذا لا يبرر اعتمادها كنهج للبحث عن حل للقضية الفلسطينية. لكن الإنصاف يقتضي الإشارة الى أن خروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل العام 1978 وعدم إلقاء سورية بثقلها العسكري للدفاع عن المقاومة أثناء حصار بيروت وخروج المقاومة منها الى شتات العالم العربي، قد أحدث "ثغرة" في عقلية القيادة الفلسطينية ملامحها هي الانتقال من عقلية حركة التحرر الوطني التي تعتمد على المقاومة لتنفيذ برنامجها السياسي الى عقلية "الفهلوي" الذي يعتقد بأن "الشطارة" وحدها تكفي لإيصال الشعب الفلسطيني لأهدافه.
بدأت هذه "الثغرة" الفكرية بشق طريقها الى عقلية القيادة الفلسطينية بزيارة الرئيس الراحل عرفات للقاهرة، منهياً بذلك حالة المقاطعة العربية لها (والتي فرضت عليها بعد زيارة السادات للقدس)، وكبرت هذه الثغرة أكثر بتفكك المعسكر الاشتراكي خلال العامين 1989-1990، وبهزيمة العراق في حرب الخليج الثانية وفي الحصار العربي والغربي بعدها والذي فرض على القيادة الفلسطينية بسبب موقفها الداعم للعراق.
كسر العزلة السياسية في "ثقافة التجريب" اقتضى من منظمة التحرير التخلي مؤقتاً عن وحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني بموافقتها على طرح موضوع إنهاء الصراع مع إسرائيل في مؤتمر مدريد 1991،عبر مفاوضات ثنائية يقودها وفد أردني-فلسطيني مشترك لا يكون لأعضائه الفلسطينيين دور واضح أو رسمي في منظمة التحرير ولا يكونوا حتى من سكان القدس أيضاً.
فشل التجربة الأولى – مفاوضات مدريد- لم يكن بلا ثمن. الصراع العربي-الإسرائيلي تحول بفعل "التجربة" الى صراع فلسطيني-إسرائيلي بما لذلك من تبعات أهمها استفراد دولة الاحتلال بالفلسطينيين وهو هدفها الأساس الذي سعت له منذ اتفاقية كامب ديفيد وعززته بالإصرار على مفاوضات ثنائية مع كل دولة عربية على حدة في مؤتمر مدريد. هذا الهدف ما كان له أن يتحقق لو تمسكت القيادة الفلسطينية برفض المطلب الإسرائيلي بالمفاوضات الثنائية لأن الدولة العربية لم تكن لتجرؤ على القيام بذلك دون موافقة فلسطينية. ومن خسائر تجربة مدريد أن التخلي "المؤقت" عن وحدانية التمثيل قد جعل القيادة الفلسطينية في موقف ضعيف جداً عندما عَقدتْ اتفاقات اوسلو.
في مقابل قبول إسرائيل بالاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني تمت الموافقة على تأجيل جميع قضايا الحل النهائي بما فيها القدس واللاجئين، والمستوطنات، والحدود. حتى فكرة أن هدف الاتفاق هو إقامة دولة فلسطينية على حدود ما قبل حرب 1967 أو حتى على حدود متفاوض عليها بعد نهاية الفترة الانتقالية لم يرد في الاتفاق.
تجربة أوسلو فشلت على الرغم من كل "الشطارة" الفلسطينية التي حاولت إنجاحها. هذه الشطارة تضمنت تعزيز التنسيق الأمني لكسب ثقة دولة الاحتلال. عدم التصميم على إزالة الحي اليهودي من وسط مدينة الخليل بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي 1994 لأن "رابين" لم يكن في وضع انتخابي مريح للقيام بذلك. تكريس تقسيم الخليل الى منطقتين H1 و H2 لكسب ود الجانب الأميركي لعل ذلك يدفعه للضغط على حليفه الإسرائيلي بعد أن أثبت الفلسطينيون مرونتهم السياسية.
الراحل عرفات اكتشف فشل التجربة بعد إعلان دولة الاحتلال القيام ببناء آلاف الوحدات الاستيطانية في جبل أبو غنيم في القدس، وتأكد له الفشل أكثر في مؤتمر كامب ديفيد عندما سعى الإسرائيليون لإسقاط القدس الشرقية، واللاجئين، والأغوار، والتكتلات الاستيطانية الكبرى من أي اتفاق يمكن الفلسطينيين من الادعاء بأن المساومة الكبرى (قبول دولة على حدود ما قبل حرب 1967- 22 بالمائة من أرضهم التاريخية، الى جانب إسرائيل) قد حققت نتائجها. مدفوعاً بفشل التجربة وبالتحريض الذي مارسته القيادة الإسرائيلية على الفلسطينيين ودخول شارون للأقصى بحماية الشرطة الإسرائيلية، دخل الراحل عرفات في تجربة جديدة- تجربة العودة للمقاومة المسلحة. لكنها كانت من النوع التكتيكي الذي يستهدف تحسين شروط التفاوض وليس من النوع الإستراتيجي الذي يعتمد على المقاومة لإنهاء الاحتلال.
في جميع الأحوال تجربة العودة للمقاومة المسلحة فشلت لأنها لم تكن مبنية على رؤية إستراتيجية تم التفكير بها والإعداد لها بعناية. لكن الفشل لم يكن أيضاً بلا ثمن وكان كبيراً وواضحاً كشمس الظهيرة. العديد من مدن الضفة حوصرت بجدران ومعابر دولية، القدس أصبحت ممنوعة على فلسطينيي الضفة، السلطة فقدت قرارها المستقل وفرض عليها إعادة بناء مؤسساتها بما في ذلك تغيير قانونها الأساسي، وبعد ذلك، فقد الرئيس عرفات حياته. ومن نتائج التجربة المبادرة العربية التي تخلت ضمناً عن مبدأ حق العودة قبل الحصول حتى على موافقة إسرائيلية بالانسحاب من كامل الاراضي الفلسطينية التي تحتلها.
السلطة الفلسطينية ما بعد عرفات كان لها سياساتها التجريبية الخاصة. مقتنعاً بأن طريق المفاوضات لم تأخذ حقها من الوقت والجهد، وأن الانتفاضة الثانية كانت خطأً تاريخياً، قرر الرئيس عباس أن يقوم بتجريب طريقته هو وهي بشكل مختصر: تنفيذ كل الاتفاقات التي وقعت عليها السلطة مع إسرائيل (بغض النظر عن التبادلية فيها)، قبول كل ما تطلبه الرباعية الدولية من إجراءات تتعلق بطريقة بناء المؤسسات الفلسطينية، الحفاظ على التنسيق الأمني بغض النظر عن تقدم مسار المفاوضات أو ممارسات الجانب الإسرائيلي، منع أي مقاومة مسلحة، وإعطاء المفاوضات الوقت الكافي. الرئيس عباس أيضاً اعتمد مرونة سياسية كبيرة بما فيها التركيز على قضايا تبادل الأراضي لرسم الحدود، عودة اللاجئين بموافقة الطرفين، دولة غير مسلحة، ضمانات كافية لأمن إسرائيل. الرئيس عباس كان يعتقد بأن "حسن سيرة وسلوك السلطة الفلسطينية" سيتم ترجمته بضغط دولي على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب، وضبط الامن في الضفة سيفتح الطريق لقوى السلام الإسرائيلية للوصول للحكم. الثقل الدولي الداعم للقضية الفلسطينية ووجود حكومة إسرائيلية ترغب بالسلام مع الفلسطينيين، ومرونة سياسية من جانب السلطة سيمكن الشعب الفلسطيني من الوصول الى أهدافه. هذه باختصار العناصر التي حكمت ولادة التجربة الفلسطينية الجديدة في عهد الرئيس عباس.
بعد عشر سنوات على دخول الفلسطينيين في "دهليز" التجربة الجديدة فإن النتائج تتحدث عن نفسها. شعور الإسرائيليين بالأمان دفعهم أكثر للتطرف: الاحزاب اليمينية التي تؤمن عقائدياً بأن فلسطين جميعها ملك "للشعب اليهودي" أصبحت مهيمنة على الحياة السياسية الإسرائيلية. الإسرائيليون الآمنون لم يعودوا يتذكرون وجود شعب فلسطيني يعيش تحت احتلال دولتهم. المفاوضات استخدمت وسيلة لتكثيف الاستيطان ولتعزيز السيطرة على القدس. الضغط الدولي الذي كان يحلم الرئيس عباس بأن يمارس على إسرائيل تمت ممارسته على الشعب الفلسطيني لمنعه من إنجاز مصالحة وطنية مع "حماس". خلال السنوات العشر الماضية تم تكريس فكرة أن حدود الدولة الفلسطينية ليست هي حدود ما قبل حرب 1967 ولكنها خاضعة للتفاوض بسبب وجود نصف مليون مستوطن في الضفة، وتم تثبيت نهاية حق العودة لانها مرتبطة بموافقة الطرف الإسرائيلي عليها، والقدس لم تعد أكثر من شعار لا وجود فعليا للسلطة فيها ولا يتمتع سكانها بأي دعم خاص، ودولة الاحتلال لا زالت تحمل السلطة مسؤولية أمنها.
التجربة السياسية فشلت باعتراف الرئيس عباس نفسه، والبحث عن تجربة سياسية جديدة قيد الإعداد هو دليل فشل. الحديث عن التجربة الجديدة بدأ منذ سنتين تقريباً، وملامحها كما يبدو تقوم على أن "يغزو" الفلسطينيون مجلس الامن الدولي والمنظمات الأممية بما فيها محكمة الجنايات الدولية. لكنها كغيرها مجرد تجربة سياسية لا تهدف لدعم إستراتيجية شاملة عناصرها واضحة وثابتة للخلاص من الاحتلال. بشكل مختصر سياسة التجريب ليست سياسة لحركة تحرر وطني وألحقت في السابق وتلحق حاليا ضرراً كبيراً بالقضية الفلسطينية لا يجب تجاهله.

المصدر: 
الأيام