هل العلاج في مصانع الدواء أم في مصانع القرار السياسي؟

بقلم: 

نموذجان يصلح كل منهما بامتياز وبألم للحديث عن الأزمات السياسية العميقة والمركبة وآثارها الاجتماعية، هما فلسطين وبيروت، ولعل في السطور التالية ملاحظات وانطباعات من وحي مؤتمر حالفني الحظ بحضوره، مؤتمر عقد في الجامعة الأمريكية ببيروت، تناول التحديات الاجتماعية السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وأثرها في الوقاية والحد من الأمراض غير المعدية، الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري وأمراض القلب والشرايين والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي، حيث شارك فيه باحثون من مختلف دول العالم، وفرق عمل مبدعة في هذا المجال.

وكباحث في الدراسات الإقليمية وشؤون المنطقة، أثار اهتمامي ذلك السر الكامن في أثر السياسة على الصحة العامة، وترك الكثير من الانطباعات والتساؤلات حول أهمية ربط الصحة العامة وتفاقمها بعدم الاستقرار السياسي. لقد فاق اللقاء توقعاتي وقادني للتفكير في الوضع السياسي في منطقتنا من زاوية قل ما ينظر منها باحث. وأعتقد أن مشكلة السياسيين لدينا هي التركيز على إطفاء الحرائق بدل منع اندلاعها... وبحثهم عن المخرج في الاتجاه الخطأ، ولعل هذا المؤتمر يوضح الصورة أكثر.

عند الحديث عن الوقاية من الأمراض غير المعدية يظهر عدد من الأسئلة: هل يمكن التنسيق بين الباحثين وصناع القرار في مجال الصحة العامة والمجتمعية من جهة، وبين صناع القرار السياسي من جهة أخرى؟ وكيف ذلك؟ إلى أي حد تأخذ الحكومات العربية التي تقدم خدمات الصحة والرفاه نتائج وتوصيات معاهد الصحة العامة الباحثة في هذا المجال؟

من الأرقام التي ذكرها المتحدثون مثلاً أن ربع السكان في لبنان اليوم هم سوريون لجأوا خلال السنوات الأربع الأخيرة بسبب الأحداث هناك، فكيف يؤثر هذا الوضع السياسي على أوضاعهم الصحية وعلى قدرة الدولة اللبنانية على رعايتهم؟
ولعا أبرز المتحدثين من فلسطين كانت الدكتورة ريتا جقمان الباحثة في معهد الصحة العامة في جامعة بير زيت ومن مؤسسي هذا المعهد العريق. والتي أبدعت في حديثها عن الانتقال من علاج الأجسام إلى علاج الجروح الداخلية، بمعنى الصدمات والضغوط الناجمة عن الوضع السياسي المتوتر، حيث عرضت تطوير إطار عمل ومقاييس ذات علاقة بالعنف السياسي، العنف والصحة.

إن للحالة السياسية المتدهورة لدينا في فلسطين تأثير عام على الوضع الاجتماعي الصحي حيث لا يقتصر الخطر على ممارسات الاحتلال وانسداد الأفق السياسي، بل إن مشاكل الواسطة والمحسوبية والفساد بشكل عام داخل النظام لها تأثير مباشر على انتشار الأمراض أو تفاقمها وصعوبة التعامل معها.
ومن هنا فإن الزلازل والكوارث السياسية -إن صح التعبير- التي نعيشها في بلادنا، لا تقل خطورة عن  الكوارث الطبيعية، حيث أن الثانية أغلب ضحاياها من الفقراء والمهمشين، في حين أن الأولى تضرب الكل دون تمييز أو رحمة. إن الفوضى وانعدام الأمن والضبابية في المشهد وعدم اليقين في ما يخبيء المستقبل كلها عقبات حاسمة أمام التصدي لأمراض مزمنة والحد من انتشارها، حيث يعيش الفلسطينيون في سجن كبير مفتوح في ظل معاناة كبيرة، وإذا مالم نفهم معنى ومبرر للمعاناة فإنها بلا شك سوف تزداد.

هل من علاقة بين العنف والمعاناة الاجتماعية الناجمة عنه وبين تفشي الأمراض؟ وهل نحتاج لفهم مسار حياتنا بالمجمل لكي نعالج الأمراض المزمنة؟ هل يكفي التحليل السياسي وصنع القرار لحل القضايا بعيداً عن فهم علاقة المعاناة الاجتماعية والعنف بالمرض؟

هنالك الكثير من الملاحظات والانطباعات التي يمكن الوقوف عندها في العرض المكثف المختصر والمهم الذي قدمته دكتورة ريتا. ومن وجهة نظري كباحث في الدراسات الإقليمية والشؤون الإسرائيلية ولا علاقة لي بعلم الأمراض، سوى أنني أرجو السلامة منها، ومن أهل السياسة الذين تعقد هذه المؤتمرات للتخفيف عن ضحاياهم... في حين أن الموضوع مثير للاهتمام حيث يوجه الأنظار إلى علاج من نوع مختلف يتكامل ويواكب العلاج في العيادة، إنه صنع القرار!
إننا نحتاج إلى العدالة والحل السياسي اللائق بنا وبمعاناتنا أكثر من حاجتنا إلى الأدوية، وفي الوقت الذي تنفق فيه أوروبا وأمريكا وغيرهم المليارات على شراء الأدوية والخدمات الطبية للشعوب المنكوبة فإن بإمكانهم التراجع عن السياسة التي تلحق الدمار بشعوب المنطقة، وتخلق بيئة داعمة للأمراض المزمنة.

في عالمنا هذا نجري طوال اليوم إلى العيادات والصيدليات من أجل علاج أمراض مزمنة، والعلاج الناجع والجذري موجود أصلاً في أروقة السياسة. وقد يكون الدواء لدى صناع القرار السياسي وليس عند مصانع الأدوية، إن القيادات السياسية تعالج المشكلة من جذورها عندما تنشر الطمأنينة والسلام الداخلي بفضل العدل، واحترام الكرامة الإنسانية، أما العيادات ومصانع الأدوية فإنها في هذا السياق تشتغل بتسكين الآلام وإطفاء الحرائق، حرائق داخل العقول والقلوب تتجدد وتنتشر كل يوم وتستهدف أعصابنا وقلوبنا معاً ولا ينقصها من أسباب الانتشار شيء... أمراض وزلازل اجتماعية علاجها متوفر ليس فقط في معامل الدواء!
شكراً لبيروت على الاستضافة وتسكين الجراح وفتح جراح أخرى... وهي التعلق بتلك المدينة العظيمة والحسرة على مغادرتها... بيروت التي وصلت الموت ألف مرة ولم تمت، ها هي تعلمنا دروساً في الحياة، ولعل فلسطين مثلها تعلمنا فن الحياة تحت ضغوط وابتلاءات لا يطيقها إلا الأشداء، مرة أخرى شكراً لجامعة بيرزيت ولمعهد الصحة العامة والمجتمعية وللقائمين عليه. ولعله بوصلتنا في هذا الضباب... وشعلة تضيء لنا الطريق.
بيروت/4-12-2014