أوهام داعش والشباب الفلسطيني وجهاً لوجه

بقلم: 

 

لم تكن الحرب المجنونة التي شنتها دولة الإحتلال الإسرائيلي هذا العام على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة وحدها التي كَفِلَتْ كشف عُوار أدبيات مفهوم "العدو" لدى داعش في ظل تصريحات بعض منظريها وأنصارها على وجوب مقاتلة العملاء والخونة العرب قبل إسرائيل، وتصفية حلفاء إيران في غزة والضفة ودول الطوق _ في إشارة منها إلى حركة حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله _ قبل الدخول في صراع نهائي في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي الجاثم على الأرض الفلسطينية منذ ما يقارب ثلثي القرن؛ بل محاولة التيار السلفي والذي يشكل الحاضنة الأساسية لداعش والحركات السلفية الجهادية صرف نظر الشباب الفلسطيني عن مقارعة الإحتلال الإسرائيلي ومقاومته إلى دخول معمان معاركها في مقاتلة المرتدين والعملاء والكفار _ حسب تعبيرها _ في البلاد العربية لتكون الدولة الناشئة عن هذه الحرب هي نواة التحرير تحت قاعدة " نقاتل جميعاً في كل بقاع الأرض _ إلا فلسطين طبعا ً_ وعيوننا نحو بيت المقدس"!!                  

باعتقادي وبحسب هذه الأدبيات لن نصل مطلقاً إلى الدائرة الأخيرة المفترضة في حرب مفتوحة مع دولة الكيان لأسباب كثيرة، قد يكون أهمها حرف وجهة الكفاح المسلح واعتلال بوصلته واضطراب أولوياته لتكون إسرائيل آخر الحسابات في مواجهة قوى الشر والإستعمار؛ وفي سبيل ذلك ترى داعش أن عموم المسلمين الشيعة هم العدو فاحذرهم، وأن القضاء عليهم أو دخولهم عباءة أهل السنة والجماعة هي الحل الأمثل لهذه المعضلة، وهو الشُغل الشاغل الذي يَحْرُم أنْ يغفل عنه المجاهدون حتى وهم يبصرون بيت المقدس تحت وطأة بني صهيون تُهَوَّد وتُغتصَب وتُنتهَك حُرمَاتُها صباح مساء، ويكفي هذا السبب لتتولد قناعة لدى كل عاقل أنَّ هذه الحرب طويلة الأمد _ بطول تاريخ الطائفتين منذ الخلاف الأول الذي ولَّد الصراع القائم أواره حتى أيامنا هذه _ لا يمكن تجاوزها دون فناء طائفي لن يحدث أبداً، وبالتالي نحن بحاجة إلى سنين طويلة في انتظار دور جهادي داخل فلسطين المحتلة سنموت مئات المرات على أبوابه ولن يأتي!!

هذه المقدمة ضرورية للتعليق على تسريبات بعض أجهزة الأمن الفلسطينية حول أعداد الشباب الفلسطيني الذي التحق بداعش للقتال ضمن صفوفها في حربها المشتعلة في العراق وسوريا، حيث أنَّ هذه التسريبات تفيد أنَّ عدد الفلسطينيين من الضفة الغربية وحدها تجاوز المائة والعشرين فلسطينياً كان أكثرهم من محافظات شمال الضفة الغربية!!

هذا الإنحراف الخطير في مفهوم "العدو"، وتفضيل معاقل الفتنة، والإقتتال الداخلي والإحتراب الطائفي على قتال دولة العدوان، ورأس الشر، وكتلة السرطان المزروعة قهراً في جسد الأمة الإسلامية والوطن العربي الكبير؛ ليدق ناقوس الخطر ويهوي بفأس الضياع في جدار الأمة الأخير التي نذرت مقاوميها ورجالها لقتال ربيبة الإرهاب العالمي المسماة زوراً إسرائيل.

هذه الأعداد التي خرجت _ سواءً كانت بنظر البعض صغيرة أم كبيرة _ لتكون حطب الفتنة في سوريا والعراق بدلاً من أنْ تكون نيرانها في صدر العدو الصهيوني ولا غير هذا العدو، تدعو السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وفصائل العمل الوطني والإسلامي في فلسطين إلى الوقوف الجاد على أسباب هذا الإنحراف، ومحاولة إخماد هذه النار قبل أن يتسع شررها فيطال لهيبها الفلسطينيين دون أن تمس إسرائيل ومكانتها وأمنها ولو برمادها المتطاير.

في عام 2007م وبعد حدوث الشرخ الكبير بين حركتي فتح وحماس وبداية الإنقسام وسيطرة حركة فتح على الضفة وحركة حماس على غزة؛ عمدت السلطة في رام الله إلى تسهيل وصول التيار السلفي إلى منابر المساجد ومواقع الخطابة والوعظ الديني في الضفة نكايةً بحركة حماس؛ مما فتح المجال أمام التيار السلفي بالتمدد على حساب حركة حماس في الضفة ونشر أفكاره ومعتقداته بين الشباب المتعطش لأي وسيلة ترفع عنه ظلم الأعداء وذوي القربى دفعةً واحدة، فساعد ذلك إلى ظهور عدد كبير من الشباب المتشدد الذي ينظر إلى الحركات الإسلامية بعين الريبة والتوجس حتى وصل إلى درجة التخوين والتكفير، وفي ذات الوقت لا يرى فلسطين كقضية مركزية للأمة العربية والإسلامية، ويرى القتال مع جماعاته السلفية على أي بقعة في الأرض أولى وأوجب من قتال دولة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلة.

ليس هذا هو السبب الوحيد الذي يدفع الشباب الفلسطيني لتبني الفكر السلفي المتشدد ومحاولة الإنضمام إلى داعش والقتال تحت عباءتها خارج فلسطين؛ فالأسباب كثيرة ومتعددة تتحمل الجزء الأكبر منها السلطة الفلسطينية؛ وذلك ومنذ تولي الرئيس الفلسطيني محمود عباس رئاسة السلطة في عام 2005م وأجهزته الأمنية تسعى بكافة السبل والوسائل لعدم قيام أي انتفاضة وكبح جماح أي حراك شبابي في وجه دولة الإحتلال رداً على جرائمها وانتهاكاتها ومجازرها اليومية بحق الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم، وكانت قد أحكمت الأجهزة الأمنية بقبضتها الحديدية سيطرتها الأمنية على الضفة وأنهت مظاهر عسكرة الإنتفاضة الثانية والتي اندلعت في نهايات عام 2000م والتي كانت المتنفس الحقيقي للتعبير عن الغضب والثورة وانفجاره بوجه الإحتلال؛ فأي تحرك للشباب الفلسطيني على صعيد مقاومة الإحتلال الإسرائيلي أول ما يُجابه من الأجهزة الأمنية الفلسطينية ويُفْرَض الحظر عليه، ويتم ملاحقة شبابه ونشطائه بالسجن والإعتقال، فلهذه التصرفات وهذه التوجهات لقيادة السلطة والأجهزة الأمنية والتنسيق الأمني البغيض مع الإحتلال الأثر العكسي على الشباب الفلسطيني في محاولة إيجاد البدائل لتفريغ هذا الظلم والقهر الذي يعانيه على يد قوات الإحتلال ومنع أجهزة السلطة لإنفجاره في وجه الإحتلال الإسرائيلي.

وهذا كله ليس بمعزل عن حالة الإحباط واليأس الشديد لدى شريحة واسعة من الفلسطينيين والمتولد عن حالة الإنقسام الفلسطيني الداخلي بين شقي الوطن؛ والذي ما زالت آثاره مستمرة حتى أيامنا هذه، وعجز القيادة السياسية بالخروج من مأزق الإنقسام إلى رحاب الوحدة الوطنية، ومن برامج التسوية المهينة ووهم السلام مع دولة الكيان ببرنامج وطني حقيقي يناضل من أجل فلسطين الأرض والإنسان.

هذا ملف جديد يُضاف إلى العديد من الملفات التي يجب على السلطة والفصائل الفلسطينية طرحها على موائد النقاش وفي حلقات الحوار الوطني ليتسنى البحث في أسبابها ومعالجتها من جذورها. نعم، ملفاتنا كثيرة وقضايانا كبيرة بحجم جراح هذا الوطن، وهموم هذا البلد، وحزن مقدساته المنسية، وأرضه المغتصبة، وحقوقه المنتهكة. وعلى الفلسطيني أنْ يدرك أنْ لا قداسةَ أكبر من قداسةِ قدسه، ولا أطهرَ من طهارةِ أرضه، ولا أعدلَ من عدالةِ قضيته، فالبوصلة إلى القدس وكلُّ بوصلةٍ لا تُشير إليها لن تكونَ إلا سراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءا.