سطحية إسرائيل في إستخلاص العبر

بقلم: 

لم ينفك قادة إسرائيل على مر السنوات، وفي كل محطة عن ترديد مقولة إستخلاص العبر، ومحاولة الأخذ بتوصيات لجان التحقيق المختلفة بعد كل حرب خاسرة، أو محطة إنكفأت فيها قواتهم، وهوى فيها قادتهم إلى الحضيض.

ولكن وعلى ما يبدو أن الذهنية الإسرائيلية التي تحقق، أو تخطط، وتلك التي تقود، أو تدمر هي ذهنية عاجزة، وسطحية، وغبية، ومكابرة، فهي تعتقد دائما بأنها قادرة على إيجاد الحلول المبتكرة لكل خيباتها.

إتخذت إسرائيل قرارها بالإنسحاب الأحادي من قطاع غزة في العام 2005، وبعد عام واحد وعقابا لحركة حماس فرضت حصارها على أكثر من مليون وسبعمائة ألف فلسطيني في القطاع، تاركة إياهم يعانون أوضاعا إقتصادية، وصحية، وإجتماعية، ونفسية سيئة وغير محتملة، ناهيك عن الإعتداءات المستمرة من قبل قواتها وعلى طول المناطق العازلة على المواطنين الفلسطينيين، وتدمير مزروعاتهم، وإطلاق النار عليهم. وإستمرارها في عمليات الإغتيال الأمر الذي دفع فصائل المقاومة في غزة إلى الإعلان عن إنتهاء التهدئة في منتصف العام 2006، واستئناف إطلاق الصواريخ.

ولإستخلاص العبر لمن لم يستخلصوها، نود التذكير أن الحرب الحالية على غزة ليست الأولى، فسفك دماء الفلسطينيين في غزة لم يتوقف قبل، وبعد الإنسحاب أحادي الجانب، فقد تذرعت إسرائيل بإختطاف الجندي جلعاد شاليط، لتشن عدوانا دمويا على قطاع غزة في شهر 6/2006،  وأطلقت على عمليتها إسم " أمطار الصيف " . وقد أسفرت العملية بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية عن استشهاد 225 فلسطينياً، بينهم 62 طفلًا، فضلاً عن إصابة 888 آخرين، وتدمير مئات البيوت.

وبعد أشهر قليلة فقط، وفي نهاية عام 2006  قامت إسرائيل بعملية " غيوم الخريف "  شمالي قطاع غزة، حيث أسفرت العملية عن إستشهاد 78 فلسطينيا، وجرح المئات، وفق إحصاءات رسمية فلسطينية. ومع بداية العام 2008 كانت إسرائيل تعد العدة لحرب جديدة والذريعة دائما وقف الصواريخ الفلسطينية، فقامت بعملية " الشتاء الساخن " نهاية شهر 2/2008.

ولم تعط إسرائيل فرصة لسكان غزة المحاصرين لإلتقاط الأنفاس، ولملمة الجراح، ولم تف بإلتزامات رفع الحصار وفق التفاهمات المبرمة برعاية مصرية، فبدأت عمليتها " الرصاص المصبوب " نهاية العام 2008، والتي إستمرت حتى 18/1/2009. ولعل ما ميّز هذه العملية هو حجم الضحايا الكبير في أوساط المدنيين الفلسطينين، حيث إستشهد ما يزيد عن 1400 فلسطيني، وجرح أكثر من 5300 غالبيتهم العظمى من المدنيين، ناهيك عن حجم الدمار الهائل المتعمد للبيوت، والبنى التحتية، والإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والتي أظهرتها تقارير مختلفة صادرة عن منظمات دولية ومحلية معنية بحقوق الإنسان.

وفي العام 2012 إغتالت إسرائيل قائد كتائب القسام أحمد الجعبري، لترد فصائل المقاومة بإطلاق الصواريخ، ولتوسع إسرائيل عدوانها من خلال عملية " عمود السحاب " التي إستمرت ثمانية أيام، حصدت إسرائيل خلالها أرواح أكثر من 160 شهيدا، وإصابة أكثر من 1200 فلسطينيا، وتدمير مئات المنازل، وإنتهت العملية بإبرام إتفاق التهدئة 2012 برعاية مصرية والقاضي بوقف الأعمال العدائية العسكرية، والإجراءات في القطاع " برا، وبحرا، جوا "، وفتح المعابر وتسهيل حركة الاشخاص والبضائع وعدم تقييد حركة السكان أو استهدافهم في المناطق الحدودية. ولكن على الأرض لم تطبق إسرائيل أيا من بنود الإتفاق الأخير، فبقي الحصار وتعزز، وإستمرت الأعمال العدائية العكسرية، وعمليات المضايقة والإستهداف.

يلحظ المتتبع لمسلسل الإعتداءات الإسرائيلية المستمر في قطاع غزة أن المدنيين شكلوا الغالبية العظمى من ضحايا هذه الإعتداءات، وأن تدمير البيوت والبنية التحتية كان عملا ممنهجا في كل هذه العمليات، التي لم تخلو أيضا من إستهداف للصحفيين، والمؤسسات الإعلامية، ولا يبدو أن إسرائيل تمارس في حربها الحالية إلا روتينا إعتادته، وقبله العالم، وربما يكون العدد الكبير للضحايا والذي تجاوز 1840 شهيدا، و9300 جريحا حتى اللحظة، والحجم الهائل للتدمير، وحجم الإنتهاكات هو الشيء اللآفت في هذا العدوان الأخير.

ومع كل عملية نفذتها إسرائيل في غزة، أو في لبنان كانت تدّعي أنها إستخلصت العبر، وأنها طورت من قدراتها الإستخباراتية والقتالية، وأنها باتت قادرة على إنهاء، أو تقليص " الخطر الذي يتهدد أمنها "، ولكن الوقائع على الأرض، ومن خلال تفاصيل ونهايات عملياتها السابقة، تثبت أن إسرائيل ما زالت تعيش بقادتها المتعاقبين، وجيشها مكابرة زائفة، تستند إلى ذهنية سطحية، وغباء مفرطا، ومطبقا. وأن إستخلاصها للدروس والعبر كان أمرا مضحكا. فإسرائيل:

1.    وصفت في المحاولات الأولى لتصنيع الصواريخ في غزة، أن هذه الصواريخ عديمة الجدوى، وأنها لا تشكل خطرا حقيقيا عليها، حتى أن بعض قادتها كانوا يضحكون عند سؤالهم عن الخطر الحقيقي لهذه الصواريخ. ومع كل عدوان كانت هذه الصواريخ تتطور حتى باتت تكظ مضاجع قادتها على المستويين السياسي، والعسكري. فمن مدى 2 كم حول غزة إلى أكثر من 150 كم. لقد باتت كافة المدن الإسرائيلية تحت مرمى صواريخ المقاومة. وأجبرت ملايين الإسرائيليين في مشاهد درامية إلى النزول للملاجئ، وأغلق المجال الجوي الإسرائيلي في فضيحة ستلاحق الإسرائليين على مدار سنوات، ولم تجد القبة الحديدية في القضاء على هذه الصواريخ.

2.    مارست الإغتيالات حينما، وحيثما أتيحت لها الفرصة، وفي كل مرة كانت تدّعي أنها قضت على " العقل المدبر " و " المهندس " و " الخبير " و " القائد الميداني " و " قائد كتائب القسام " وغيرها من التوصيفات، ونسيت، أو تناست، ولم تستخلص العبر من أن هذه السياسة التي مارستها منذ عشرات السنوات لم توقف الثورة الفلسطينية رغم قائمة الإغتيالات الطويلة، وأنها لو كانت ناجحة لقضت على حماس وفصائل المقاومة في غزة منذ أمد بعيد، منذ إغتيال عماد عقل، وأحمد ياسين، والرنتيسي، والغول، وصلاح شحادة، وغيرهم الكثير، والجعبري الذي ظنت أنها بإغتياله قضت على كتائب القسام، ليربكها هذا الأداء في الحرب الأخيرة.

3.    لم تأخذ بعين الإعتبار أن العقلية التي فكرت بتصنيع صاروخ، ستبقى في حالة عالية من الرشاقة الذهنية لتصّنع المزيد، وستبحث عن طرق جهنمية لتحصل على ما تريد، ولهذا طور القسام بندقية قنص أثبتت كفاءتها في الميدان، وطائرات بدون طيار، وعبوات، وقنابل يدوية، وأمتلك " الكورنيت " و " الفونيكس " و " الغراد " ، وأخفى منظومته الصاروخية بإقتدار، ومن المؤكد أن هناك من المفاجآت الكثير.

4.    تبجحت أكثر من مرة أنها نجحت في تدمير العشرات من منصات الصواريخ، وأن مخزون حماس وفصائل المقاومة من الصواريخ قد أوشك على النفاذ، مع أن الدلائل تشير إلى عكس ذلك، ولنفترض أن الإدعاء الإسرائيلي صحيح، ولنذهب أبعد من ذلك، ولنتخيل أن إسرائيل إجتاحت قطاع غزة بالكامل ودمرت جميع الصواريخ التي تملكها حماس وفصائل المقاومة، فهل تنتهي المشكلة ؟ من الغباء عدم التفكير أنه تم توريث، وتناقل الذهنية، والقدرة التصنيعية، فإذا بدأ التصنيع بحماس نجد اليوم أن جميع الفصائل في غزة تمتلك القدرة على التصنيع، وكذلك القدرة على إخفاء منصات هذه الصواريخ، وعندها يكمن الحل – وفق المكابرة الإسرائيلية – في إبادة جميع سكان قطاع غزة.

5.    بكل رؤساء وزارئها، ووزراء دفاعها، ورؤساء أركان جيشها المتعاقبين " المعاقين " لم يتعلموا الدرس خلال العمليات الطويلة على غزة، وفي كل مرة شنوا فيها عدوانا حددوا أهداف العملية بإعادة الهدوء للمستوطنات المحيطة بغزة، وتدمير منظومة الصواريخ، والقضاء على " الإرهابيين " وأضاف " نتنياهو " هدفا في العدوان الجديد تدمير الأنفاق. وذهب شارون، وباراك، وموفاز، وأولمرت، دون أن يحققوا شيئا من هذه الأهداف، ووفقا للأصوات التي بدأت تتعالى داخل إسرائيل بمحاسبة القائمين على هذه الحرب الفاشلة. من وسائل الإعلام، ووزراء سابقون، ولجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، سيلحق بهم " نتنياهو " أيضا دون أن يحقق هدفا واحدا.

6.    أبتدعت خلال العدوان الحالي – وضمن أهداف العدوان – تدمير الأنفاق في غزة، والغريب أن العقم الإسرائيلي تجلى بأن أضيف هذا الهدف لاحقا لقائمة الأهداف المعلنة منذ البداية، وسبب ذلك هو العمليات النوعية للمقاومة من خلال الإنفاق، والتي أوقعت في صفوف النخبة خسائر فادحة. وأقول عقما لأن المقاومين إستخدموا الأنفاق سابقا في أكثر من عملية، لعل أبرزها خطف شاليط. وأرهقتهم الأنفاق في حربهم مع حزب الله، وتجلى العقم في عدم إستخلاصهم للدروس والعبر من قضية الأنفاق، وفشلهم في التنبؤ بإستراتيجيات المقاومة.

7.    ورغم إدراكها لقضية الأنفاق – متأخرا – وما تشكله من خطورة بالغة، أدعت قبل أسابيع أنها نجحت في تدمير جميع الأنفاق شمالي قطاع غزة، وفي منطقة الشجاعية التي تم تسويتها بالأرض، ومع ذلك ووفق تعبير المقاومة – نجحت عمليات الإنزال خلف خطوط العدو – وتكبدت قوات النخبة في هذه المناطق خسائر فادحة، ولعل اللطمة الكبرى كانت في الشريط المصور لعملية ناحل عوز. وصباح اليوم نقلت القناة العاشرة أن النفق الأخير سيفّجر بعد ساعات، لا تضحكوا إذا ما قامت المقاومة بعمليات إنزال أخرى خلف خطوط العدو. ولنفترض جدلا أن إسرائيل دمرت جميع الأنفاق في غزة أين يكمن إستخلاص العبر في ذلك ؟ ما الذي يمنع فصائل المقاومة من حفر ضعفي عدد الأنفاق ؟ وأن تكون هذه المرة أطول بكثير لتصل معكسرات أبعد وأكثر تحصينا ؟ سيما وأن المقاومة تملك المعاول والأظافر، والوقت، وأرض غزة باقية لم تتبخر، وما الذي سيمنح الطمأنينة لسكان المستوطنات الجنوبية ؟ ويمنعهم عن التبليغ عن سماعهم أصوات حفر تحت الأرض مع كل نسمة ريح !!!

8.    عملت على تخصيص موازنات ضخمة لجيشها، وتفاخرت به حد الخرافة، ولكن وفي كل حرب خاضها هذا الجيش – وإستنادا لصحفييهم، ووزارئهم، ولجان تحقيقهم – فقد القدرة على الردع، وأصبح جيشا يخاف ولا يخيف، وباتت غزة تمثل الكابوس لهذا الجيش، وأصبحت أمنيات الجنود أن يعودوا بأمان إلى البيت. من العام 2006 راقبوا أداء الجيش وأداء المقاومة، واستخلاص العبر هنا مفروغ منه، الشجاعة ليست حقنة تعطى لجنود الإحتلال، بينما البطولة والإرادة حليب يرضعه المقاوم الفلسطيني مذ كان طفلا. والسبب إقتناع هذا المقاوم بحقوقه.

9.    لطالما حرصت على جبهتها الداخلية، هذه الجبهة التي كانت حروب إسرائيل التاريخية بعيدة عنها، اليوم باتت هذه الجبهة تخشى حرب إستنزاف، ودخلت هذه الجبهة الملاجئ من الجنوب إلى ما يسمى بمدن المركز، وبات صوت تذمرها مسموعا غير خافت، في حين لم تفتت ضربات إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين من عضد الحاضنة الشرعية للمقاومة، فتحمل المدنيون القتل والتدمير صابرين مؤمنين بحقهم، ولعل ما تقوم به إسرائيل اليوم محاولة تركيع المقاومة من خلال إيقاع الخسائر الأكبر في صفوف المدنيين( رئة المقاومة وخاصرتها) ورغم عظم المصاب إلا أن هذه الحاضنة ما زالت متماسكة وصابرة، وقادرة على تحمل المزيد ثمنا لغد أفضل.

إزاء كل هذا ويزيد، إذا كان على إسرائيل أن تستخلص العبر فهناك عبرة واحدة وهي أن الشعب الفلسطيني سئم الإحتلال ويتوق للحرية، وأن يعيش بكرامة على تراب أرضه، وأنه لن ينفذ الوسائل في المقاومة، وفي تطويرها وصولا لتحقيق ذلك. وتبدو المطالبة بفك الحصار الظالم الذي كان سببا في وفاة وإستشهاد المئات في غزة مطالبة معقولة ومتواضعة في الوقت الحالي، وأن المطالبة القادمة المستحقة لعدم إستيعاب إسرائيل للدرس وإستخلاص العبر ستكون أكبر، وأكبر بكثير.