صراع الأدمغة ومعركة الإرادات بين "أبو مازن" ونتنياهو
كانت اليايان من أكثر دول العالم تضرراً بعد الحرب العالمية الثانية، هزمت اليايان عسكرياً بطريقة بشعة بعد قصف مدنها بالسلاح النووي وتدمير كامل بنيتها التحتية.
آنذاك عاش الشعب الياباني على فتات المساعدات التي يقدمها المحتل الأمريكي، لم يستسلم شعب اليابان للهزيمة واليأس، وبإرادة صلبة ووعي مدروس، تمكن الإنسان الياباني من استعادة قواه وتوحيدها وتفجير طاقاته الإبداعية بطريقة مدهشة.
هزم اليابانيون الإحتلال الأمريكي هزيمة أخلاقية وإنسانية وعلمية وتكنولوجية.
التساؤل الذي أطرحه دائماً، ماذا لو فكر اليابانيون بعد الحرب العالمية الثانية بعقلية العرب آنذاك؟. هل كانوا سيكتفوا بقيام الأمم المتحدة بإنشاء وكالة إغاثة وتشغيل للاجئين والمشردين اليابانيين؟.
مقدمة لابد منها لتأكيد فعالية نظرية الإنتصار والتفوق الأخلاقي على العدو المحتل.
مضى قرن من الزمان على الصراع العربي مع الحركة الصهيونية، والذي لازال الشعب الفلسطيني رأس الحربة في إدارته. عبر عقود طويلة مارس الشعب الفلسطيني حقه في الدفاع عن نفسه وأرضه بشتى الطرق والوسائل، النتيجة المؤلمة التي نخشى الإعتراف بها تكمن في إخفاق الشعب الفلسطيني في تحقيق أهدافه وطموحاته الوطنية، رغم التضحيات المهولة التي قدمها خلال عقود المواجهة والإشتباك، لم تقودنا هذه النتيجة المريرة إلى القيام بمراجعات صريحة وشجاعة تعالج أسباب الإخفاق وتستخلص العبر والنتائج تمهيداً لوضع استراتيجية جديدة أكثر نجاعة في إدارة الصراع.
جاء الرئيس محمود عباس بفلسفة جديدة لإدارة الصراع، ترتكز على فكرة تحييد التفوق العسكري الكبير للعدو وتجنيب شعبنا همجيته وشراسته المدمرة. عرف الرئيس محمود عباس الطرق التي يمكن من خلالها محاصرة العدو، الذي يفهمه جيداً، وسحب البساط من تحت أقدامه بأسلوب هادي وناعم مستفيداً من خبرته وحنكته السياسية ومعرفته الدقيقة بمعطيات المشهد والنظام الدولي وآليات عمله.
عبرت قيادة إسرائيل أكثر من مرة عن تخوفها وقلقلها من السياسة التي ينتهجها الرئيس محمود عباس وخطورتها على مستقبل الدولة.
المعطيات السياسية للمشهد المحلي والإقليمي والدولي الراهن.
(1) أزمة الإئتلاف الحكومي الإسرائيلي
جرت آخر انتخابات إسرائيلية في مطلع العام الماضي 2013، وكانت نتائجها تشكيل إئتلاف حكومي يميني متطرف بقيادة "نتياهو" زعيم كتلة (ليكود بيتنا) المتحالف مع العنصري "لبيبرمان". في حينه نجح "نتياهو" في تشكيل حكومته الجديدة مستنداً إلى قاعدة برلمانية ترتكز على 68 مقعداً من أصل 120 مقعداً، تمثل أحزاب (ليكود بيتنا 31 مقعداً، هناك مستقبل 19 مقعداً، البيت اليهودي 12 مقعداً، الحركة 6 مقاعد).
منذ تشكيل حكومة نتنياهو، كان واضحاً الدور الكبير الذي يمارسه المتطرف "نفتالي بينيت" زعيم حزب "البيت اليهودي"، في توجيه سياسات حكومة نتنياهو، خاصة فيما يتعلق بملف المفاوضات. فقد هدد أكثر من مرة بالانسحاب من الحكومة، الأمر الذي يعني اسقاط حكومة نتنياهو في حال القبول بوقف الإستيطان أو إطلاق سراح أسرى من فلسطينيي الداخل.
ونفتالي بينيت صاحب نظرية "لا داعي للإنسحاب من الضفة االغربية فالدول العربية منهارة".
أزمة الإئتلاف الحكومي الإسرائيلية لم تقتصر على تهديدات "نفتالي بينيت" المستمرة، وتململ تسيفي ليفني زعيمة "حزب الحركة"، بل وصلت إلى حد تصريح الحليف الإستراتيجي لنتياهو "ليبرمان"، بأنه لن يشارك في أي انتخابات مقبلة في كتلة مشتركة مع الليكود. كما أن زعيم حزب "هناك مستقبل" يائير لابيد، قد أعرب أكثر من مرة عن انزعاجه من سياسة نتنياهو، وأنه "يجد صعوبة في تبرير وجوده في الحكومة في ظل تقرب نتياهو من أحزاب اليمين".
مقابل ذلك، تشير إستطلاعات الرأي، إلى أنه في حال إنهيار حكومة نتنياهو وإجراء إنتخابات برلمانية مبكرة، فإن قوة حزب الليكود ستتلاشى وسيفقد نتنياهو زعامته للمعسكر اليميني. الأمر الذي يدفع نتنياهو إلى العمل على تصدير أزماته الداخلية، بمنطق الهروب من دفع استحقاقات الأزمة.
(2) المشهد الدولي الإنتقالي
كشفت الأزمة الأوكرانية الحالية بوضوح عن الواقع الجديد للمشهد الدولي (طور التشكل)، والذي لم يعد أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة بمفردها، فقد برزت روسيا الإتحادية نداً وخصما قوياً في وجه التفرد الأمريكي في إدارة الشؤون الدولية وتطويعها كيفما تشاء. ولعله من الصواب القول إن النظام العالمي يمر بمرحلة انتقالية دقيقة وحساسة بموجبها سيكون هناك شأن لقوى صاعدة جديدة في التأثير في صياغة المشهد السياسي الدولي. وبالتأكيد فإن هذا التحول لن يخدم مصلحة إسرائيل استراتيجياً.
إن إنشغال الدول الكبرى في أزمات عاصفة مثل الأزمة الأوكرانية التي جاءت في مرحلة انتقالية يمر بها المشهد السياسي الدولي بما يخدم إسرائيل "لحظياً"، ويدفعها إلى الإسراع في تنفيذ برامجها ومخططاتها على اعتبار أن عامل الوقت ليس في صالحها.
(3) المشهد الإقليمي المضطرب
منذ اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي، يشهد الإقليم العربي اضطرابات عاصفة نقلته إلى حالة من عدم الإستقرار على نحو خطير، باتت فيه الأمة العربية في حالة تشظي واشتباك مع ذاتها التائهة وغير المتبلورة.
حالة الضعف والترهل في المحيط العربي، أنتجت أزمات جديدة ألقت بظلالها القاتمة على القضية الفلسطينية، والحقيقة المؤلمة تكمن في تراجع القضية الفلسطينية في الضمير والوجدان العربي. إسرائيل تتابع بدقة متناهية مجريات الأحداث في الإقليم العربي، ومن المؤكد أن لها يد وباع في تأجيج الصراعات بطرق شتى.
إن الواقع العربي الراهن يفتح شهية إسرائيل على التغول والإستفراد بالشعب الفلسطيني وقيادته.
(4) الجبهة الداخلية الفلسطينية المتصدعة
من المؤسف القول إن حكومة إسرائيل وأجهزتها المختلفة تدرك بدقة طبيعة الواقع الراهن للشعب الفلسطيني المنهك بعد سنوات طويلة من الإنقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي كانت لاعب أساسي في إدارته من خلال فرض سياسة الحصار والعزل، والترويج دولياً لأكذوبة عدم وجود شريك فلسطيني مؤهل لتحقيق السلام.
هذا الإنقسام انعكس سلباً على الجبهة الداخلية الفلسطينية وأضعف من قدرتها على المواجهة والصمود بالشكل الأمثل.
تعلم إسرائيل جيداً أن التصدع الذي أصاب الجبهة الداخلية الفلسطينية، والتي نهشتها الخلافات، أسهم بشكل كبير في خلق حالة من الإحباط المتنامي وفقدان الثقة لدى الإنسان الفلسطيني. وبالنسبة لحكومة إسرائيل، فإن فهمها للواقع المؤلم للشعب الفلسطيني شجعها على تصعيد عدوانها وتنفيذ برامجها التدميرية.
القوة الناعمة للرئيس "أبو مازن" وما تسميه اسرائيل بحملة نزع الشرعية
حظي الرئيس محمود عباس على قدر كبير من الإحترام والمصداقية على الساحة الدولية، فلا يستطيع أحد أن ينكر نجاح الرئيس محمود عباس في استعادة ثقة ومصداقية المجتمع الدولي في الشعب الفلسطيني وقيادته ومؤسساته، من خلال نفي صفة الإرهاب والفساد عنه.
لعل ذلك تجلى في إصدار العديد من المؤسسات الدولية وحكومات دول كبرى، لبيانات تبرهن وتدلل على ذلك.
لقد أدرك الرئيس محمود عباس بحكمة واقتدار عبر قرائته وإدراكه لمعطيات الواقع، أن إدارة الصراع مع الإحتلال تتطلب نقل المعركة إلى ملعب يسهل فيه هزيمة العدو وعزله وتعريته وتكبيله وفضحه أمام المجتمع الدولي وجعله عبء عليه. ولا يستطيع أحد أن ينكر أيضاً، أن حكمة وحنكة الرئيس محمود عباس أوصلت الإدارة الأمريكية إلى قناعة مفادها بأن إسرائيل باتت عبئاً ثقيلاً على الإدارة الأمريكية، ولعل تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري غير المسبوقة التي حمل فيها إسرائيل المسؤولية عن انهيار مفاوضات السلام، تعكس تغيراً كبيراً في الموقف الأمريكي، لهي خير دليل على ذلك.
إن موقف الإتحاد الأوروبي، ودوله الداعمة والمساندة للموقف الفلسطيني، والمناهض والمندد بالموقف الإسرائيلي، لهو دليل إضافي على قدرة الرئيس محمود عباس الناعمة على تعرية وكشف حقيقة إسرائيل العدوانية. وهنا يجدر التذكير بالنجاحات السياسية والدبلوماسية الكبيرة التي حققها الرئيس "أبو مازن" والمتمثلة بحصد وجني اعترافات عشرات الدول بالدولة الفلسطينية.
الرئيس "أبو مازن" وتجاوز الخطوط الإسرائيلية الحمراء
يشكل هذا العنوان المحور الأهم في هذا المقال ويمثل جوهره.
إن معرفة العقلية الأمنية والسياسية والإستراتيجية للعدو الإسرائيلي ومنهجية تفكيره يسهل عملية فهم نواياه ومخططاته غير المعلنة. خاصة وانه لم تتوقف حملات التحريض الاسرائيلية ضد الرئيس محمود عباس. فتارة يصفوه بالارهابي الخطر على مستقبل الدولة، وتارة أخرى يتوعدوه بالحصار أو النفي. وهو ما عبر عنه وزير الاقتصاد الإسرائيلي نفتالي بينيت، بأن "أبو مازن هو عرفات، لكنه يرتدي بدلة أجمل، فكلاهما يتحدث عن مليون شهيد".
وفقاً للتفكير الإستراتيجي الإسرائيلي، فقد أقدم الرئيس محمود عباس على تبني مجموعة مواقف وإجراءات تصنف إسرائيلياً ضمن قائمة المحرمات، فيها تجاوز للخطوط الحمراء التي تهدد مستقبل الدولة العبرية، لعل أبرزها:
(أ) رغم التهديدات الإسرائيلية والأمريكية المتكررة، وبعد إحباط الإدارة الأمريكية لإصدار قرار في مجلس الأمن الدولي يقضي بالإعتراف بالدولة الفلسطينية، أصر الرئيس محمود عباس على التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، طالباً الإعتراف بدولة فلسطين، وقد حقق انتصاراً سياسياً ودبلوماسياً وقانونياً كبيراً في ذلك من خلال تصويت 138 دولة لصالح القرار لتصبح بموجبه فلسطين بصفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة. أهمية هذا الإنجاز تجلت في توظيفه من خلال توجه الرئيس محمود عباس إلى الإنضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية، والتي يمكن توظيفها في عزل ومحاصرة إسرائيل وتعريتها أمام المجتمع الدولي.
(ب) رفض الرئيس محمود عباس مقترحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لإحلال السلام، رغم التهديدات الإسرائيلية والأمريكية التي وصلت إلى حد تحذيره بمواجهة مصير سلفه الشهيد ياسر عرفات. وهنا سجل للرئيس محمود عباس رفضه بشكل قاطع منذ توليه مهام الرئاسة، التوقيع أي اتفاق انتقالي مع حكومة الإحتلال.
(ت) فوض الرئيس محمود عباس وفداً من منظمة التحرير الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق مصالحة مع "حماس". وبالفعل أدار الرئيس "أبو مازن" ظهره إلى التهديدات الإسرائيلية والتحذيرات الأمريكية، بل وأوعز للوفد بالتوقيع على اتفاق مصالحة مع حركة "حماس"، تشكلت بموجبه حكومة وفاق وطني، ليثبت مجدداً مصداقيته في الحفاظ على القرار الوطني المستقل بما يخدم مصالح الشعب الفلسطيني بعيداً عن أي اعتبارات أخرى.
(ث) إقدام الرئيس محمود عباس، كزعيم لحركة "فتح" على خطوات تصحيحية في الحركة، تسهم بشكل فعلي في تطهيرها وحمايتها من الإختطاف، والعمل على إعادة بنائها على نحو وطني يؤسس لاستعادة هيبتها واستمرارها في تحمل مسؤولية قيادة المشروع الوطني التحرري. بالتأكيد إن هذا الأمر لا يروق لإسرائيل، بل يثير سخطها وحفيظتها، بعد أن كانت قد رسمت خططها ووضعت سياساتها استناداً إلى فرضيات واهمة مع شركاء طامحين.
جاءت العملية الغامضة بفقدان ثلاثة مستوطنين مغتصبين على أرض الخليل المحتلة بحسب إدعاءات ومزاعم حكومة الاحتلال، التي حملت مسؤولية اختفاء المستوطنين، للرئيس محمود عباس بعد ساعات قليلة فقط، وفي ظروف سياسية معقدة، يسعى نتنياهو إلى إستغلاها بطريقة تمكنه من تصفية الحساب مع الرئيس محمود عباس وتدفيعه الثمن لقاء تجاوزه للخطوط الحمراء من وجهة نظر قادة الاحتلال، وفي ظل ظروف ومناخات إقليمية ودولية سلبية، شجعتهم على الإسراع في تنفيذ مخططاتهم وبرامجهم العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته.
بات من الواضح، أن الحكومة الإسرائيلية الإئتلافية غير المستقرة بقيادة نتنياهو، تسعى جاهدة إلى الحفاظ على استقرارها واستمرارها، من خلال العمل على إجهاض النجاحات والإختراقات السياسية الهامة التي يصنعها الرئيس محمود عباس على صعيد تجسيد مفهوم بناء الدولة.
إن عملية التحريض الممنهجة من قبل قادة إسرائيل، ضد شخص الرئيس محمود عباس، بات من المؤكد أنها تهدف وتسعى إلى عزله عن الساحة الدولية واغتياله سياسياً، بمشاركة أطراف محلية وإقليمية، وذلك في سياق مؤامرة كبرى، على غرار ما فعلته مع سلفه الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات.
هنا تبرز الحاجة الوطنية والماسة، لدعم ومساندة الرئيس محمود عباس خاصة في هذا التوقيت العصيب، بغية حماية المشروع الوطني وإنجازات الحركة الوطنية الفلسطينية، وهنا أيضاً يتطلع شعبنا الفلسطيني إلى مصر الجديدة في ظل قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، بأمل وأمنيات كبيرة للعب دورها الريادي في نصرة ودعم القضية الفلسطينية، والوقوف إلى جانب رأس الشرعية الفلسطينية "أبو مازن".