انطباعات من رام الله

بقلم: 

الأراضي الخاضعة لإدارة السلطة الوطنية الفلسطينية، بزعامة الرئيس محمود عباس، تشبه سجنا كبيرا بعد 21 عاما على اتفاقية أوسلو وملاحقها، والمفترض أن تنظّم بناء سلطة حكم ذاتي لمرحلة انتقالية سقفها خمس سنوات، تنطلق خلالها مفاوضات الوضع النهائي، وصولا إلى رحيل الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة بجوار إسرائيل.

بعد عقدين في مختبر التجارب، تحوّلت السلطة إلى مقاول محلي للاحتلال؛ تحمل عنه عبء إدارة الشؤون الحياتية والخدمية للفلسطينيين، بينما تستكمل إسرائيل مشروعها التوسعي. فالمستوطنات تتمدد على قمم التلال والجبال، لتزنر المناطق الفلسطينية، وتخنق معها الأمل بتسوية مقبولة للفلسطينيين.
جدار الفصل العنصري -بحسب الفلسطينيين- والحاجز الأمني -وفق الإسرائيليين- تمدّد في سنوات ليحول دون وصول سكان الضفة الغربية إلى إسرائيل أو المستوطنات، مقطّعا أوصال الدولة المنشودة. في الأثناء، تحولت الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية إلى ذراع ضمن المنظومة الأمنية الإسرائيلية لحماية دولة الاحتلال التي تتحكم بأدق تفاصيل حياة الفلسطينيين ورئيسهم غير القادر حتى على السفر إلى الأردن من دون تنسيق مسبق.
واليوم، فإن غالبية الفلسطينيين على قناعة بأن المستقبل الآتي لا يحمل حلا سياسيا، وأن البناء والصمود والمقاومة هي الطريقة الفضلى لإدارة حياتهم.
تلكم خلاصة انطباعات الزائر لرام الله التي باتت عاصمة أمر واقع، بعد أن كانت "إدارية مؤقتة"، ضمن معادلة إسرائيلية بإذعان فلسطيني لإدارة أزمة الصراع إلى أجل غير مسمى.
حياة الفلسطينيين صعبة ومؤلمة مع تكشّف كذبة مفاوضات السلام التي أصبحت مهنة لفريق التفاوض في منطقة؛ أقلية فيها ما تزال تؤمن بخيار التفاوض السلمي.
مواطن يقول: "قبل أوسلو، كان بإمكاني الذهاب إلى يافا للاستجمام والسباحة في مياه البحر. اليوم، أصبحت أسير جدار إسرائيل وحدود سلطة السلطة". فلسطيني آخر ضمن المنطقة (ج) -حيث السيطرة لإسرائيل أمنيا وإداريا- غير قادر على بناء شقة فوق منزل والده ليسكنه مع زوجته، لأن إسرائيل لا تمنح تراخيص بناء هناك، بهدف إبقاء الفلسطينيين داخل المناطق الخاضعة تماما لإشراف السلطة (المنطقة (ج) تغطي
61 % من مساحة الضفة الغربية، وهي تشكل بدورها 22 % من فلسطين التاريخية). وحين لجأ هذا الشاب إلى محام إسرائيلي على أمل استصدار إذن اشغال تشييد الشقة، أطاحت بها الجرافات الإسرائيلية أمام عينيه. أما شقيقه، فيعجز عن تحقيق حلم بسيط في حياته: دراجة نارية سعة 1200 "سي. سي"؛ ذلك أن اتفاقية أوسلو تحظر اقتناء دراجة تزيد سعتها على 500 "سي. سي".
وثمة فلسطيني ثالث اعتقل 18 مرة في إسرائيل بعد القبض عليه متسللا للعمل هناك، حيث الأجر ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه في المناطق الفلسطينية "المحررة".
سكان القدس ممن يزاوجون بين الجنسية الأردنية وهوية إسرائيل، هم مثار حسد أقرانهم في سائر الضفة الغربية. فالهوية توفر لهم مزايا مجانية، وحقوقا مشابهة لما ينعم به الإسرائيليون، بما في ذلك فرص عمل بأجور مرتفعة.
مع ذلك، يشتكي معظم هؤلاء من عدم استطاعتهم توسعة عقاراتهم لتواكب التزايد السكاني، فيلجأ بعضهم إلى استئجار شقق في أراضي السلطة، حيث المساحات أكبر وأقل سعرا. ويقيم المقدسيون بين المنطقتين وسط رعب دائم من انكشاف أمرهم، فيفقدوا حق الإقامة.
يحق لسكان القدس التجول داخل إسرائيل والعمل فيها، وطبعا، هناك تداخل بين الأمني والسياسي. وحدها غزة لا يستطيعون زيارتها.
الانتقال من رام الله إلى بيت لحم قبل "أوسلو" كان يتم في 20 دقيقة. اليوم، يأخذ 90 دقيقة بسبب الجدار والحواجز. الاقتصاد الفلسطيني يعتمد على إسرائيل.
ثمة شكوى في رام الله من استفادة أقلية من اتفاقية أوسلو وتبعاتها. وتعتمد هذه الفئة على العمل في مؤسسات السلطة أو تنفيذ المشاريع الرسمية، بعد أن كانت تعيش في المنافي.
البطالة والفقر في تنام، وحال الحريات السياسية والإعلامية في تراجع. فالأجهزة الأمنية لا تحتمل حتى تظاهرة للصحفيين، فتفرقهم بالضرب، كما حصل في رام الله الأسبوع الماضي. فيما شبهات الفساد تتناسل.
في الخندق الآخر، يشكّل الوضع القائم مصدر راحة بال للإسرائيليين. حياتهم تسير بسلاسة؛ يعملون، ويسهرون، ويستحمون في مياه البحر، بعد أن تخلصوا من كابوس إدارة غالبية مناطق الضفة، وأبعد الجدار "شر العمليات الانتحارية" التي عايشوها في بدايات "أوسلو".
لم يعودوا يكترثون بما يحصل في مناطق "السلطة"، ولا يشعرون بحاجة إلى تغيير الوضع القائم، ما لم يرتفع الثمن عليهم.
الإسرائيليون يمارسون رياضاتهم المفضلة على الكورنيش كل يوم، غير مبالين بمعاناة الفلسطينيين على يد حكومتهم. لا يأبهون بالجدل الدائر بين الفلسطينيين بين مؤيد للسلطة ومناوئ لها، وبين من يريد تغييرها عبر انتخابات رئاسية وتشريعية تعيد ثقة الناس، ومن يعتقد أن الجهاد والانتفاضات والعنف هي الوسيلة الوحيدة لإجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال.
جدل متنام حول ضرورة تخلي عباس عن السلطة، ومراجعة سياسة التفاوض التي يؤمن بها مع أقلية كخيار أساسي، وسط انتقادات لطريقة إدارة التفاوض، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين على إخفاقهم في وقف استفحال سرطان المستعمرات والجدار. وثمّة سجالات حول أسباب رفض عباس الانضمام إلى معاهدة روما ومحكمتي الجنائية الدولية والعدل الدولية؛ مفاتيح محاكمة قادة الاحتلال على أنهم مجرمون.
وهناك نقاشات حول استدامة حكومة المصالحة، والتوافق بين "فتح" و"حماس" لإدارة الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة وملء الفراغ السياسي. حكومة تشكلت من منطلقات تكتيكية آنية؛ إذ إنها تأتي عقب انهيار مفاوضات السلام برعاية وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وعجز "حماس" عن تمويل إدارة قطاع غزة، مع وجود قرابة مليوني فلسطيني تحت حصار مزدوج: إسرائيلي ومصري.
"حماس" تحاول إمساك العصا من المنتصف؛ فهي تنأى بنفسها عن قرارات الحكومة السياسية، خصوصا ملف التفاوض المناط بمنظمة التحرير. وفتح الملف الأمني بين مناطق ذات غالبية فتحاوية وتلك الخاضعة لحماس، قد يقدح صاعق انفجار، لأن إسرائيل لن تسمح بدخول أجهزة غزة الأمنية على خط السلطة-إسرائيل، حتى لو نجحت جهود إعادة هيكلتها. أما الصاعق الثاني، فيكمن في ملف إصلاح منظمة التحرير وإدماج "حماس" في مؤسساتها؛ ترجمة لاتفاق وقع في القاهرة قبل سنوات، لكنه ظل مرهونا بتفسيرات الطرفين المختلفة.
مفارقات مؤلمة في رقعة جغرافية صغيرة: فلسطينيون تحت سلطة وطنية يعتمدون على ما تبقّى من روح نضالية ورغبة في الصمود لدحر الاحتلال يوما ما، ربما عندما تتغير موازين القوى. ودول غربية تغدق مئات الملايين لمساعدة "السلطة" على إدارة الحكم الانتقالي إلى ما لا نهاية، ما يتيح لإسرائيل شراء الوقت.
أطقم من الأمم المتحدة يتنقل أفرادها بمركبات رباعية الدفع، بأمل تقديم العون للفلسطينيين، لكنهم عاجزون -حال أميركا وأوروبا- عن فرض السلام. 
في الأثناء، تتعمق مخارج لدى "السلطة"، وإسرائيل، والأردن وسائر المجتمع الدولي، تقود إلى مستقبل بلا حل على المدى المنظور. ويصر الرئيس عباس - في غياب حل بديل يتعدى الشعارات والعواطف - على الانتشاء بالأداء الفلسطيني الذي تحدّى إسرائيل للفوز بعضوية أذرع الأمم المتحدة، بعد رفضها إطلاق سراح الوجبة الرابعة من الأسرى.
عباس يبدو مرتاحا للطريقة التي توقفت بها المفاوضات، بعد أن تكشفت حقيقة الطرف الرافض للسلام. وهو يتحدث لزواره عن أبواب لمغادرة "أوسلو" إلى سلطة صيغة دولة، بالحصول على أدوات قانونية ضد الاحتلال.
غالبية المجتمع الدولي اعترفت بحكومة المصالحة.
في الأثناء، تتكشف الصورة الحقيقية. فإسرائيل لا تريد حلا، وتضييقها على الفلسطينيين بات سُنة الحياة، قبل أن تطلق إسرائيل حملتها الأمنية الأخيرة في الضفة الغربية، تحت عنوان "تنظيف الاسطبلات"؛ لتفكيك بنية "حماس" التحتية، انتقاما لاختطاف ثلاثة مستوطنين.

المصدر: 
الغد