حول اختفاء الجيش العراقي وظهوره الجديد

بقلم: 

في ربيع 2004 حاولت إدارة بوش الإبن أن تمنح الاحتفال بالذكرى الأولى لغزو العراق لمسة إنسانية، كان هناك آلاف الجثث التي لم تدفن بعد على طول الممرات التي اعتمدتها أرتال المارينز في طريقها إلى بغداد، أو حول تلك الممرات التي سلكتها الفرق البريطانية المتجهة إلى البصرة، كان عشرات آلاف الجنود العراقيين ما زالوا يعبرون فرادى نحو بيوتهم وأسرهم ومزارعهم في مدن وقصبات العراق. في تلك السنة اختفى الجيش العراقي الذي اقترب تعداده عشية الغزو من مليون رجل، واختفت معداتهم وأسلحتهم، تلك التي حاربوا بها لسنوات طويلة منذ اندلاع الحرب مع إيران الخميني، مروراً بـ "عاصفة الصحراء" وصولاً إلى سقوط بغداد.

وبينما كانت الأحداث تتلاحق على الأرض العراقية وتتراكم الفوضى التي خلفها الغزو المرتجل لواحدة من أعرق دول المنطقة العربية، كانت تواصل دفن تلك الحقيقة المذهلة، فيما يشبه اتفاقاً ضمنياً على إغلاق قوس السؤال حول: "أين ذهب الجيش العراقي!".

ذهبت إدارة بوش أبعد من ذلك، كانو معنيين بإظهار حجم التحول الذي حققه "الانتصار"، وكانت أوراق اللعب الممهورة بصور المطلوبين من القادة العراقيين وبأرقام المكافآت المدفوعة، حسب قيمة الرأس المطلوب، في استعادة واضحة لزمن رعاة البقر في الغرب الأميركي، قد اصبحت في متناول الجميع، وكان التفكير بسؤال مثل اختفاء جيش كامل سيشوش إلى أبعد الحدود، دون معنى، أحلام المحتفلين وسيسقط الريش عن رؤوس الجنرالات والمجد من ذكرياتهم التي سيبدأون في كتابتها عندما يعودون إلى بيوتهم الريفية وراء الأطلسي.

لعل الصورة الأبرز لتلك الذكرى، التي تبدو بعيدة الآن ومضحكة على نحو مأساوي، الصورة التي اختارتها إدارة الغزو لتلك السنة الدامية كانت لـ "بول بريمر"، من يتذكر "بريمر" الحاكم "المدني" الذي ولاه بوش حكم العراق في احتفال في حديقة البيت الأبيض، بعد أن أسبغ عليه مدائح وصفات ترقى لأبناء الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية، تلك الصورة "المؤثرة" لـ "بريمر" بملابسه الصيفية وحذائه الابيض وهو يتقافز على ارضية خضراء لملعب كرة قدم أعيد تأهيله للمناسبة، مثل جندب سعيد ومطمئن بينما يراقبه رياضيون عراقيون ببشرات داكنة بافتتان شديد.

في مذكراته حول تلك المهمة لا يشير "بريمر" لتلك الصورة، المذكرات غارقة في وصف السياسيين العراقيين الجدد، الذين لا يرى فيهم من يستحق قيادة العراق الجديد، وقراءات استشراقية لمكونات المجتمع العراقي وانتماءاته وتقسيمه طائفياً، وفي مكانين أو ثلاثة يمر مروراً سريعاً على حادثة اختفاء الجيش العراقي : "كان الجيش السابق قد اختفى عن الأنظار قبل وصولي بوقت طويل، فمعظم أفراد وضباط الجيش الذين رأوا كيف يتجه مسار الحرب عام 2003 تواروا عن الانظار وانخرطوا مع عائلاتهم أو بدأوا العمل في مزارعهم" يقول بريمر، وفي مكان آخر: ".. وواجهتنا كذلك، صعوبات عملية مهمة تعترض استدعاء افراد الجيش السابق، فكل جيش يحتاج إلى ثكنات وقواعد ومعدات، فقد تم تدمير كل القواعد والثكنات عقب اختفاء افراد الجيش عام 2003، كما اختفت كل المعدات العسكرية الخاصة بهم".
وفي مكان ثالث: "وفي أوائل مايو وقبل أن نصل العراق، أجرى الديموقراطي المعتدل والت سلوكومب الذي كان يشغل منصب كبير المستشارين للشؤون الأمنية والدفاعية، مباحثات في البنتاغون شملت نائب وزير الدفاع بول وولفوويتز حول الدلالات السياسية لاختفاء جيش صدام"

هذا هو حجم اهتمام الحاكم الأمريكي للعراق، الذي حصل على صلاحياته المطلقة في جلسة غداء مع رئيسه كان طبقها الرئيسي طبق خضار مع الكمثرى، كما أشار في كتابه، والذي يمثل تحالفاً عالمياً اتفق على غزو العراق في العام 2003، بمصير الجيش العربي الأهم في الشرق الأوسط ، جيش مقاتل وعريق يتم تجييره بوعي استشراقي بائس لـ "صدام حسين"، رغم أنه تأسس في ثلاثينيات القرن الماضي على يد الملوك الهاشميين، الملك غازي بشكل خاص. وبهذه الروح الاستعلائية العنصرية تم تجاهل مصائر مئات آلاف الجنود وتخطي تاريخ مجيد وحقيقي لدوره في تشكيل المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى.

بريمر الذي اقتبس، بنصيحة من مترجمه "معين الجابري"، أبيات "ابن زريق البغدادي" ليضمنها كلمة وداعية للعراقيين:
استودع الله في بغداد لي قمراً
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه.

عزز في الاقتباس الجهل والتعالي الاستشراقيين، وحماقة المحتل وانتهازية المترجم وتزلفه، حين لم يترك الغزو اقماراً في بغداد لا في الرصافة ولا في الكرخ، وليس هناك من يتشبث بالقاتل ويبكي فراقه.

يأتي استحضار "بريمر" ومذكراته الآن كجزء من سؤال غامض وضروري حول اندفاع آلاف المقاتلين نحو حواضر العراق الكبيرة وانهيار "الجيش الجديد" في الموصل ونينوى وصلاح الدين والأنبار أمامهم، كمحصلة لسياسات نور المالكي الوفية لأفكار "بريمر".

وكامتداد للسؤال كيف يمكن لتنظيم مثل "داعش" أن يمتلك كل هذه القوة والتسليح والتخطيط العسكري، والقدرة على نقل خطوط الجبهة بهذه السهولة من "الرقة" في سوريا إلى "كركوك" في العراق.

لعل في هذا طرف الخيط الذي قد يقودنا إلى اللغز المسكوت عنه حول اختفاء الجيش العراقي ومعداته وتواري معظم قوى الأمن والشرطة عام 2003.

اليوم بعد الذكرى العاشرة لاحتلال العراق لم يكن ممكناً وتحت وقع زحف "داعش"، أو أياَ يكن الاسم، أيضاً، تغطية تلك البلاد والجثث والقتلى والخراب واستبدالها بـ "ألبوم" صور نظيف للمالكي وهو يقصف الفلوجة ويطارد "الإرهابيين"، بينما يواصل خارج الصورة دفع مليشيات طائفية نحو سوريا، فيما ينهار العراق ويتفكك، الدولة والمجتمع والصيغة تحت زحف الأصولية المسلحة بطائفية المالكي والمستفيدة من حماقاته وسوء إدارته، تماماً كما لم يكن بالإمكان تغطية الجثة قبل عشر سنوات بصورة لبول بريمر وهو يقفز في ملعب كرة القدم بصفته الراعي للمنتخب العراقي، صور تذكر بأولئك المستعمرين الإنجليز وهم يتجولون في حدائق الهند بقبعات بيضاء وأحذية بيضاء متبوعين بنساء بيض في الثلاثينيات من القرن الماضي.. بينما في خلفية الصورة يصطف هنود بأجساد نحيفة وبشرات داكنة وفيلة مزركشة وسعيدة، وخلف كل هذا كان الجيش المختفي، الذي جرت إهانته وتجاهله، يغوص عميقاً في البيوت والقصبات والمصاطب والأهوار البعيدة، وكانت آلاف الأيدي تعيد ترتيب السلاح وتنظيفه ومسحه بالزيت.

المصدر: 
الإمارات 24