اختطاف "الصورة" وهجاء "رام الله"

بقلم: 

كان يمكن لتلك الصورة أن تمر بهدوء ودون جلبة في طوفان الصور الذي يتدفق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو أن تهدأ في ألبومات شخصية لأفراد سيتذكرون سعادتهم صبيحة "سبت النور" في شوارع رام الله، أو مجرد صورة لشابات وشبان يحتفلون.

كان يمكن أن تكون صورة مبهجة لفتيات وفتيان يرقصون في شارع عريض ويحيط بهم جمهور محب تحت شمس نيسان، لو لم يعتقلها بعض الأشخاص مثل صيد ثمين ويعيدوا بثها إلى العالم الافتراضي كوثيقة دامغة تعزز فكرتهم عن "فساد المدينة"، لم يخل الأمر من توريط القدس وزج الأقصى وحشو التعليق المرافق للصورة المخطوفة بالرطانة المتبعة في خطاب "هجاء رام الله" السائد، أشخاص يواصلون التجشؤ في عتمة مغاورهم، يطعمون أشباحهم بقلق ويتلقون بريداً أعمى، ويتغذون على فتاوى مظلمة تندفع من دفيئات بعيدة وتتجول على طرق القرى والبلدات ومعازل الفقر لتلتقط فرائسها وتطبق على إدراكها.

ثمة حد أقامه أشخاص، أنجزوا إيمانهم ووطنيتهم، أشخاص ورثوا حراسة هذا الحد أو تطوعوا للسهر عليه، ونذروا أنفسهم لمراقبة أقدام الآخرين وأجسادهم وأحلامهم، تلك التي قد تتجاوزه أو تفكّر بذلك، لتصنيف خطيئتهم وقياسها.

حد الأخلاق الذي يتداخل مع وطنية منجزة ومجربة ومؤمن عليها، كراهية مدينة مثل "رام الله" التي يمكن لمسها باليد لمجرد أنها لم تخضع للفتوى ولم تضع "رأسها بين الرؤوس"، الحد الذي يرونه ولا نراه، لأننا لا نعرف ولأنهم يعرفون، لأننا لا ندرك وهم يدركون، الحد الذي يتنقل بخفة حسب المرحلة وتأويل الحدث وقراءة المفتي ومصالح المفكر الذي يعلم ما لا نعلم، ويفكّر عنا ويحلم من أجلنا، ويتلوّى مثل أفعى خفيفة تترك أثر زحفها على تراب أحلامنا!

حاولت البلاغة التي أحاطت بالصورة تقديم الأمر كانحراف أخلاقي ووطني وخروج عن التقاليد و"قيم شعبنا"! متجاهلة تماما، وكالعادة، ذاكرة المدينة والناس الممتدة عشرات العقود، في عملية إقصاء لرسالة الفعالية التي أخذت الصورة خلالها، والاستفراد بها وعزلها عن سياقها القائم على ترسيخ التعددية والتسامح والانفتاح، والتي تأخذ بعداً أعمق وأكثر دلالة في مرحلة تتفكك فيها هذه القيم وتتعزز الفكرة الطائفية وإلغاء الآخر، ونفيه في طول العالم العربي وعرضه.
تكاد مدن فلسطين الثلاث، القدس وبيت لحم ورام الله، تنفرد بهذا التقليد المذهل في أصالته ونبله، الذي يتوحد فيه المسيحيون والمسلمون في الاحتفال بالأعياد المسيحية من خلال المسيرات الموسيقية والكشفية في شوارع المدن الثلاث وساحاتها والتي تبلغ ذروتها في "سبت النور"، حيث تتجه وفود القرى والبلدات لاستقبال النور القادم من كنيسة القيامة وتوزيعه على البيوت والأحواش.

لو تتبعنا الصورة، موضوع الحدث، التي أخذت في رام الله، المدينة الأقل قداسة بالمعنى الديني، التي لا تتمتع بثقل التاريخ والرمزية الدينية الراسخة التي تتمتع بها مدن الجبال الخمس في فلسطين، فهي مدينة حديثة وتكاد تكون مراهقة أمام عراقة تاريخ القدس أو بيت لحم، عندما نتذكر أنها تأسست على يد البدوي المسيحي "راشد الحدادين"، وعائلته المهاجرين من بلدة الشوبك في الأردن قبل خمسة قرون أو أقل، كانت هجرة "الحدادين" في حينه انتقالاً داخلياً في "الشام الكبير" قبل أن يمنح التابعية الأردنية بعد خمسة قرون من هجرته إثر اتفاقية "سايكس بيكو" وتأسيس إمارة شرق الأردن والجنسية الفلسطينية بعد الانتداب البريطاني على فلسطين، في رواية المدينة المتداولة أن "راشد الحدادين" استبد به الحنين إلى الشوبك بعد سنوات من إقامته في بقايا القرية الرومانية، التي ستصبح رام الله فيما بعد، وعاد وحيداً إلى مسقط رأسه، بينما بقي أبناؤه في تلك التلال ليكملوا بناء المدينة.

مسيرة "سبت النور" هي ذروة هذه الاحتفالات وهي تقليد شعبي عفوي تشارك فيه عشرات فرق الكشافة من مختلف المناطق المحيطة بالمدينة، تبدأ بالتوافد على "سرية رام الله" منذ الصباح، فتيات وفتيان يهبطون من حافلات تصعد التلال المحيطة بالمدينة، مجموعات وصلت سيراً على الأقدام تحمل راياتها وأسماء قراها.

القرى المسلمة المحيطة بالمدينة والمخيمات على الأطراف بعثت بأولادها وبناتها إلى "سرية رام الله" للمشاركة في المسيرة المنطلقة نحو "دوار المنارة" لاستقبال النور القادم من قيامة المسيح، هناك ينبض قلب المدينة ويدق ويبعث بضوئه نحو زحمة المشاة والمركبات المتدافعة والباعة المتجولين وبسطات الأشياء الصغيرة التي لا نهاية لمقتنياتها، البسطات التي لا تحتفي بحاجات الناس بقدر استدراجها لذكرياتهم، أنت لا تشتري هناك عندما تقف في مواجهتها بقدر ما تتذكر .

سيعبرون نفس الشوارع التي عبروها قبل اسبوع في "أحد الشعانين" في استعارة أدائية معبرة لسعف النخيل التي لوح بها سكان (أورشليم) القدس ليسوع وهو يدخل المدينة في طريقه الى الهيكل، السعف القديمة التي تلوح بها أيدي ميته تبعث ظلالها هنا أيضاً، حيث اصطفت المدينة على جانبي "شارع السهل"، نساء محجبات ورجال خرجوا من مسجد "رام الله التحتا" للتو وشبان وصلوا من مسجد "جمال عبد الناصر" لمشاهدة العرض، أطفال على أكتاف آبائهم يلوحون بسعفهم الصغيرة الملونة لمجموعات الكشافة، في استعادة ساحرة وغير مقصودة لـ: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع"، حين خرج نسوة ورجال وأطفال يثرب، بجريد النخل والغناء أيضا، لاستقبال النبي المهاجر لحظة دخوله للمدينة. في هذا السياق ولدت صورة الفتيات والفتيان المبتهجين في رام الله، وتحت هذا الضوء العميق ينبغي أن نتأملها، كرسالة حية ونبيلة في منطقة يذرعها الكابوس وتحيط بها الكراهية.

المصدر: 
24 الإماراتي