أين إرادة شعب الانتفاضة؟

بقلم: 

الأزمات تضع كل شيء في مكانه، وبحجمه الطبيعي دون زيادة أو نقصان. أزمة المفاوضات عرَّفَت مجددا بقطبي الصراع وبالوسيط الأميركي الدائم. ومن الأنسب البدء بالوسيط لطالما انه ارتبط بديمومة الفشل والإخفاق.

لكنه في هذه المرة غير مصطلحاته السياسية المكرورة بمصطلح أدبي حين قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري: إنك تستطيع إيصال الحصان إلى النهر لكنك لا تستطيع إجباره على الشرب. يبدو أن الوزير لم يقرأ ديوان شاعرنا محمود درويش (لماذا تركت الحصان وحيدا) المترجم للانجليزية ولم يقرأ بالطبع (زمن الخيول البيضاء) للروائي إبراهيم نصر الله وفي العملين بدت الخيول الأصيلة سريعة الاستجابة لفرسانها الذين تربطهم بها علاقة حميمية متبادلة. المثل الذي ساقه الوزير كيري يظهر اللامبالاة الأميركية وكأنه يبرر لحكومة اليمين الإسرائيلي التزمت والعدمية والمضي في تعميق الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري. ولكن ماذا سيكون عليه الأمر لو كان الحصان الذي أوصله كيري الى النهر ليس إسرائيليا هل سيتركه على حريته في الامتناع عن الشرب؟ كل الحالات المثيلة كان الأميركان يقودون الخيول الى النهر ويفرضون عليها شرب الماء العكر أو يقذفونها خارج المراعي لتلاقي مصيرها في العقاب الذي يصل حد الموت في بعض الأحيان.

الإدارة الأميركية التي سجلت إخفاقات متتالية في العراق وأفغانستان ولبنان وسورية ومصر، يبدو أنها لا ترغب في إخفاق جديد عنوانه المسألة الفلسطينية. وعدم رغبتها في الإخفاق يتحول الى ضغط شديد غير معلن وغير مباشر على القيادة الفلسطينية من اجل إجبارها على الشرب من النهر، على استئناف المفاوضات والقبول باتفاق إطار فضفاض ويحتمل اكثر من تفسير، ليصار الى فرض الطرف الأقوى لتفسيره.
بينت نتائج المفاوضات ان حكومة نتنياهو كانت تتفاوض مع أقطابها في اليمين وأقصى اليمين، وكان هدفها المركزي هو بقاء الائتلاف الحكومي واسترضاء مكوناته بالاستيطان والمزيد من الاستيطان. تبين ان الوزير بينيت رئيس حزب المستوطنين ترك بصماته على مواقف الحكومة في الإعلان عن عطاءات الاستيطان وبرفض الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين. غير ان إذعان نتنياهو وبقية الشركاء لتلك المطالب كان على قاعدة الالتقاء مع تلك المطالب ضمن سياسة مشتركة واحدة.
لقد قدمت حكومة نتنياهو أداء استفزازيا الى أبعد درجات الاستفزاز، أرادت ان تذل وتخضع شريكها في المفاوضات وتقدمه في وضعية العاجز المغلوب على أمره الذي ليس أمامه غير الانصياع لشروطها وسياساتها وإلا فإنه يفقد أهليته للشراكة.

لم تتعامل حكومة نتنياهو مع شركاء بحثا عن حل سياسي ينهي الاحتلال. كما يحدث عادة مع قطبي صراع مزمن، لم تتعامل بصيغة المفاوضات الجزائرية الفرنسية، ولا بصيغة المفاوضات الأميركية الفيتنامية ولا المفاوضات البريطانية المصرية التي كانت تجري بين دول استعمارية وحركات تحرر او أحزاب سياسية تمثل شعوبها من اجل الاستقلال مع دول محتلة استعمارية.

حكومة نتنياهو تعاملت كما تعامل الأميركان مع اليابان في فرض صك استسلام. قافزة عن حقيقة أنها أمام شعب عريق يناضل من اجل حريته واستقلاله منذ ما يزيد على قرن ولم يستسلم طوال الوقت، وأنها بدأت مفاوضاتها مع حركة تحرر وطني في أوسلو. وقافزة عن حقيقة ان إسرائيل دولة محتلة مدانة بعشرات القرارات الدولية ومتهمة بجرائم حرب وأنها مطالبة بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية وان كل إجراءاتها الاستيطانية بما في ذلك نقل السكان الى الأراضي الفلسطينية، وكل تغيير للمعالم الفلسطينية فوق وتحت الأرض غير قانونية ولا شرعية وتعتبر لاغية. لقد قدمت حكومة نتنياهو ألف سبب وسبب لانسحاب المفاوض الفلسطيني مرة واحدة والى غير رجعة، لكنه للأسف بقي ملتزما بمدة التسعة شهور. غير ان عدم الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى والإعلان عن موجة جديدة من عطاءات الاستيطان فجر الوضع الفلسطيني.
لم تأبه حكومة نتنياهو لرد الفعل الفلسطيني الطبيعي. ولم تتراجع عن سياسة عجرفة القوة، بل تفننت في وضع نظام عقوبات ضد السلطة. ومضت في سعيها المحموم للإبقاء على قواعد اللعبة السياسية الإخضاعية.
لم يحدث رد فعل إسرائيلي معارض لهذه السياسة، فبقيت الخرائط الحزبية على حالها باستثناء انزياحات محدودة بحسب آخر استطلاع للرأي العام. فقد زاد حزب العمل مقعدا واحدا وزاد حزب "ميرتس" أربعة مقاعد، وتراجع حزب لبيد، وانفض تحالف ليبرمان نتنياهو مدفوعا بطموح ليبرمان لرئاسة الحكومة القادمة، وتلاشى "كاديما".

الحراكات ظلت في إطار الأحزاب الدينية والقومية والوسط لجهة تراجع طرف لمصلحة طرف آخر في إطار المعسكر ذاته. باستثناء بعض المواقف النقدية من قبل ليبراليين اسرائيليين فقد ظلت الأمور على حالها. حتى الانتخابات المبكرة بقيت على نار هادئة. لا شك ان السكون الإسرائيلي وثيق الصلة بعدم وجود ضغوط خارجية وبعدم تهديد مصالح النخب الاقتصادية والاجتماعية رغم كل الكلام عن عزل اسرائيل وفرض عقوبات عليها.

أما الموقف الرسمي الفلسطيني، فيبدو ان الذهاب الى خيار بديل للمفاوضات ما يزال مترددا ومتأثرا بالضغوط والتهديدات المعلنة والخفية. اللافت ان الحراك الشعبي وتحرك القوى المعارضة للمفاوضات بقيا خافتين ومقتصرين على إطلاق المواقف الرافضة للمفاوضات والمؤيدة نظريا لخيارات أخرى. ان الافتقاد الى زخم شعبي وحراك ميداني للمعارضة والنخب يكون موازيا للموقف الرسمي يضعف من إمكانية المشاركة في اتخاذ قرار فلسطيني واتباع خيار آخر. ويجعل الاستعداد لاحتمال رد الفعل الإسرائيلي مجرد أقوال. كان ينبغي حفر مجرى لنضال آخر واستقطاب آخر. ما نشهده من همود همة الأحزاب السياسية والاتحادات والمنظمات والنقابات والمنظمات غير الحكومية لا يبشر بأن الانتقال من مفاوضات بشروط مهينة الى خيار بديل يدق الأبواب. وإذا ما استمر هذا الوضع اللامبالي على حاله، اذا استمر حياد الشعب والقوى، فإن الضغوط ستزداد من اجل البقاء في مسار يؤدي الى حل هو الفصل العنصري البشع. أين إرادة شعب الانتفاضة؟ أين الثقة بالنفس وبعدالة طريق الحرية؟ أين مواقف التحدي لمحاولات الإخضاع؟.

المصدر: 
الأيام