هذا ليس نتنياهو الجديد

بقلم: 

ورد على نطاق واسع في وسائل الإعلام أنّه من المرجّح أن يقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإطار العمل الذي طرحه وزير الخارجية الأميركي جون كيري لاتفاق سلام قائم على حلّ الدولتين بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، مع أنّ عدداً من شركائه في الحكومة الائتلافية هدّدوا بإسقاط حكومته في حال وافق على ذلك. كما أنّهم حذّروه من أنهم سينسحبون من حكومته إذا قبل بتجميد عمليات البناء الجديدة في المستوطنات أثناء سير المفاوضات.
وفسّر عدد كبير من المراقبين هذه التقارير على أنها مؤشر على حصول تغيير مهمّ في موقف نتنياهو القديم، القائم على الاعتراض الشديد على قيام دولة فلسطينية، إذ اعتبر على الدوام أنّ الفلسطينيين يرغبون في استخدامها كمنصة لشنّ هجوم على كيان الدولة اليهودية بحد ذاته. ومن المعروف أنّ نتنياهو تعهّد بقبول حلّ الدولتين في خطابه في جامعة بار إيلان في 14 حزيران (يونيو) 2009. إلا أنّ أحداً في إسرائيل لم يصدّق كلامه. وقد أدرك نقّاده ومؤيّدوه على السواء أنّه يحاول كسب الوقت بهدف إيصال مشروع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية إلى مرحلة يستحيل فيها عكس مساره.
لكن يُقال اليوم إن نتنياهو فهم أخيراً أنّ احتلال إسرائيل للضفة الغربية لا يمكن أن يكون دائماً، لأنه يهدّد بعزل الدولة اليهودية وبتجريدها من شرعيتها. ولسوء الحظ، يُعتبر هذا التحليل لوجهة نظر نتنياهو مغلوطاً تماماً، ولطالما كان كذلك في الماضي. ففي كلّ مرة يتمّ فيها انتخابه رئيساً للوزراء – وهو يحتل هذا المنصب الآن للمرة الثالثة – يطمئننا الخبراء بأننا نتعامل مع نتنياهو براغماتي جديد، وفي كلّ مرة يتبيّن أنهم على خطأ.
حين تمّ انتخاب نتنياهو رئيساً للوزراء في العام 1996، كنتُ أقوم بزيارة للرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي أخبرني بأنّ الرسائل التي تلقّاها من نتنياهو عبر وسطاء تؤكّد له أنّه اكتسب براغماتية جديدة وواعدة. ورفض الشكوك التي أبديتُها تجاهه. لكن في المرة التالية التي التقينا فيها، عبّر عن خيبة أمله العميقة من نتنياهو وشكّك في مصداقيته. وقد دار النقاش نفسه بيننا حين أُعيد انتخاب نتنياهو رئيساً للوزراء عام 2009.
وقد نقلل من شأن نتنياهو إن قلنا إنه ليس زعيماً يتمتع برؤيا. فهو بلا أدنى شك رجل ذكي وبارع من وجهة نظر تكتيكية، ويعلم كيفية البقاء في موقع الرئاسة، مع الإشارة إلى أن هذا الهدف، الذي ينظر إليه على أنه على ارتباط وثيق بالحفاظ على قيادته لليمين السياسي في إسرائيل، يطغى على كلّ تحدٍّ محلي ودولي آخر تواجهه إسرائيل. وفي حال صحّت التقارير التي تفيد بأنه ينوي في الوقت الحالي قبول اتفاق الإطار الذي اقترحه كيري لاتفاق قائم على حلّ الدولتين، ففي الأمر دلالة على حنكة نتنياهو التكتيكية وليس على تغيّره. وليست البراغماتية الجديدة المنسوبة إليه سوى خدعة تعطيه وقتاً إضافياً لتعميق المشروع الاستيطاني ولتمهيد الطريق أمام لوم الفلسطينيين على فشل جهود كيري.
لماذا هذه الخلاصة المتشائمة؟ لأنّه ورد أيضاً أنّ نتنياهو أقنع كيري بتقديم إطار عمل لا يعتبر حدود عام 1967 كنقطة بداية لحصول مقايضات بسيطة لأراضٍ، ولا يطالب بوضوح أن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية الجديدة، ولا يسمح للفلسطينيين بالسيطرة على حدود الدولة الفلسطينية الجديدة بدلاً من الجيش الإسرائيلي، علماً بأن إطار العمل هذا لن يحول دون تواجد جيش إسرائيل وقوات أمنها بدلاً من القوات الدولية لمراقبة انتقال الفلسطينيين نحو قيام دولة متكاملة، بل سيسمح بسيطرة إسرائيل المستمرة على غور الأردن. وبمعنى آخر، سيكون إطار العمل متماشياً تماماً مع سيطرة إسرائيل المستمرة على إسرائيل الكبرى.
وبالنسبة إلى التهديد الذي يشكله قبول نتنياهو بإطار عمل كيري على بقاء حكومة نتنياهو الائتلافية، فإن الحزب الوحيد الذي قد ينسحب في هذه الظروف هو حزب «البيت اليهودي» الذي يرأسه نفتالي بينيت. وهو حزب يستطيع نتنياهو استبداله بسهولة (علماً بأنّ الزعيم الجديد لحزب العمل إسحق هرتزوغ يعلن دوماً استعداده للانضمام إلى حكومة نتنياهو). ولا شيء سيُسعِد نتنياهو أكثر من رحيل بينيت، وهو من الرجال الذين يكن لهم الكراهية.
وتتمثّل الطريقة الوحيدة لنجاح كيري في تغيير تاريخ طويل من الفشل الديبلوماسي الأميركي في التوصّل إلى اتفاق قائم على حلّ الدولتين في التخلي عن المفهوم القائل بأنّ الطرفين قادران بمفردهما على التوصّل إلى اتفاق مقبول قائم على حلّ الدولتين إذا قدّمت الولايات المتحدّة الصيغة الديبلوماسية المناسبة لذلك. ولا بدّ أنّ الولايات المتحدّة أدركت منذ زمن بعيد أنّ الاختلافات الواسعة بين القدرات الاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية لكلّ من إسرائيل والفلسطينيين ستحول دون التوصّل إلى اتفاق مماثل، في حال تُركا للعمل على هواهما.
هناك طريقة وحيدة لتتمكّن الولايات المتحدّة من إقناع الإسرائيليين بقبول اتفاق قائم على حلّ الدولتين، وتتمثل في تغيير حسابات إٍسرائيل القائمة على مقارنة التكاليف والمنافع. ولا يمكن حصول ذلك إلا في حال أبلغت الولايات المتحدّة إسرائيل بأنها ستنسحب من عملية السلام المزيّفة وستسمح لمجلس الأمن بتحديد حدود إسرائيل وبإبلاغها بالتبعات المترتبة جرّاء عدم التزامها بذلك. وقد يؤدي ذلك إلى بروز حكمة إسرائيلية جديدة من شأنها إنقاذ الطابع اليهودي والديموقراطي للدولة.
ولا مجال للشكّ أبداً في أنّ إسرائيل بحاجة ماسة إلى هذا النوع من الإنقاذ. وبالتالي، هل سيقبل ولو عضو واحد من أصل 14 ألفاً في لجنة «آيباك» بالمزاعم الديموقراطية لدولة تحكم على شعبها اليهودي بأن يكون خاضعاً، على امتداد نصف قرن، للقهر والحرمان كما تفعل إسرائيل بالشعب الفلسطيني؟
الأجدى بدولة اليهود الأخذ بنصيحة الحكماء في سلوك الآباء في التلمود، التي تقضي بأنه لا يجدر أن تحكم على أخيك إلى أن تضع نفسك مكانه.
وبالتالي، ألم يسبق لنا أن وضعنا أنفسنا في هذا الموقف؟

* مدير مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط - أستاذ باحث غير مقيم في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) في جامعة لندن.

الحياة