كيري مستشرقاً

بقلم: 

لم ينجح السيناتور الاميركي في ان يكون وسيطاً نزيهاً في عملية التفاوض.
ومن كان يتوقع منه أن يكون كذلك!! لا أحد فتاريخ الولايات المتحدة في المنطقة منذ النكبة الفلسطينية لم يكن نزيهاً، وكانت دائماً تقف إلى جانب إسرائيل حتى لو ظهر على سطح العلاقة خلافات جزئية معها حول بعض القضايا والمواقف.
بالطبع لم يقم السيناتور كيري إلا بإعادة التجربة الأميركية في المنطقة، وأعادها بنجاح واتقان كما يمكن لأي سياسي ودبلوماسي أميركي محترف مثله أن يفعل.
وقف بشكل كامل وبصلافة خلف المزاعم الإسرائيلية وتبنى مواقف تل أبيب كاملة دون ان يقوم بأخذ المطالب الفلسطينية بعين الاعتبار، بل اعتبر نفسه مدافعاً عن مزاعم إسرائيل ومطالبها.
إن مقترحات كيري فيها الكثير من المساوئ والخطايا لكن أسوأ هذه المساوئ أنها تريد من الفلسطيني أن يعترف بأنه حر ومستقل فيما تواصل إسرائيل احتلال أرضه.
كيري يريد للفلسطينيين أن يقولوا إنهم سعداء بهذا الاحتلال ويقبلون به بل أنهم يقرون أنه غير موجود أصلاً، وأنهم أحرار فيما تواصل اسرائيل احتلالها لبلادهم.
فإسرئيل ستواصل احتلال الغور وتواصل الحضور بأشكال مختلفة على المعابر والمنافذ وستحتفظ بالسيطرة الجوية وأشياء كثيرة، وسيقول الفلسطينيون طواعية إن الاحتلال غير موجود.
الفيل يا ملك الزمان، فهم يريدون أن يزوجوا فيل الملك لأنه يشعر بالوحدة، وربما جاؤوا له بونيس من نفس جنسه.
كيري فكر وتدبر في أفضل السبل كي تحافظ إسرائيل على احتلالها للضفة الغربية وهو وببراعة استخدم التكنولوجيا في إعادة اختراع الاحتلال وفي إجراء عمليات تجميل ومكياج له حتى يصبح أي شيء آخر في قاموس اللغة إلا احتلالاً.
وعليه قدم مقاربات مغلوطة خلط فيها بين التطلعات القومية للفلسطينيين وبين حقوقهم التاريخية وبين الهاجس الأمني الإسرائيلي المزعوم.
اعتمد كيري مثل أي مستشرق على الافتراض الاستشراقي القائل بالتهديد الشرقي لوجود الحضارة الغربية.
فالفلسطيني الأعزل الذي تدك مدنه وقراه بالأف 16 وبالبوارج الحربية يشكل خطراً على القنبلة النووية الإسرائيلية، وبالتالي فإن الأمن الإسرائيلي مهدد وجودياً مثل الحضارة الغربية من مجرد وجود المواطن الفلسطيني، بنفس القدر الذي تتعرض له الحضارة الغربية لتهديد وجودي من الشرق برمته.
إن هذه الصورة النمطية التي اعتملت في المخيلة الغربية ووجود ترجماتها وإحاطاتها كما تفسيراتها وتبريراتها في الفنون والآداب الغربية بحيث وفق الراحل إدوارد سعيد في إعادة انتاج الشرق حتى يتم استشراقه، هي ذاتها التي تحرك عقل السيناتور الأميركي حيث يقوم بمقايضة حق الفلسطيني في حياة آمنة وهانئة، حقه في السفر عبر معابر محترمة وقتما شاء، حقه في أن ينام دون ضجيج الطائرات وهدير البوارج، حقه في أن يحلم، حقه في أن يحب ويتزوج، حقه في العمل وبناء المصانع وفلاحة أرضه، لقد قايض كيري كل ذلك بهواجس إسرائيل مزعومة، حيث صارت أحلام الفلسطيني خطرا على القنبلة النووية الإسرائيلية. إنها ذات المقايضة التي يقوم بها روائيو الغرب في الرواية الفيكتورية (نسبة لعصر الملكة فكتوريا) بين رغبات المستعمر وبين خوف وقلق مواطني المستعمرات، كما يفعل ثوماس هاردي في روايته "رحلة إلى الهند" وغيرها.
يعيد كيري انتاج منظومة القيم الاستشراقية كلها من خلال مبادرته التي يريد للرئيس محمود عباس أن يقبل بها، بل ويشيد بها.
إنه يريد للضحية أن تقبل الجلاد وتقول له إن وجودي على هذه الأرض قبل وجود كلمة التاريخ ذاتها كان صدفة وكان خطأً وانا نادمة عليه، بل إذا استلزم الامر دفع تعويض أخلاقي مقابل هذا الخطأ.
أليس هذا ما تعنيه يهودية الدولة. أليست تعني أن الفلسطينيين هم العابرون بين الكلمات العابرة وليس العبرانيون كما تصفهم التوراة ذاتها، حيث إنهم عبروا أرض كنعان ولم يكونوا أصلاً سكانها.
مرة اخرى ثمة إعادة انتاج لمقولات استشراق كيري في هذا السياق. فالوجود الفلسطيني بحد ذاته ليس إلا بدعة من بدع الشرق وخرافة من خرافاته.
يمكن له أن يكون مجرد حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، كما يمكن له أن يكون قصة شعوذة مخيفة في الوعي الغربي والصهيوني تحديداً، لكنه لا يمكن أن يكون حقيقة واقعة.
لأن الشرق نفسه مليء بالحكايات الغريبة وبقصص السحر الجذابة في المحصلة ولكن غير المرغوبة، من هنا يكون الشرق فاتناً وآسراً ويقع الرجل الغربي في حبه.
إن حكاية الهندي الأحمر تتم إعادة انتاجها بطريقة مختلفة هنا. فالفلسطيني لم يكن موجوداً قبل ذلك، وكل الحديث والشواهد على وجوده ليست إلا من آثار شعوذة الشرق وخرافاته.
يهودية الدولة تعني ليس إعادة سرد التاريخ بل إعادة موضعة الرواية وفق تطلعات استعمارية أكبر. لكن حتى الدور المطلوب من الفلسطيني في هذا السياق هو أن يقر بأن هذه الشعوذة وهذا السحر من اختلاقه.
وبالتالي يتحول الوجود الفلسطيني إلى مجرد حكاية مسلية، يمكن للمستعمر مثلا أن يقوم الفلاح الفلسطيني باستئجار الأرض التي صادرها المستوطن منه لفلاحتها كما أوردت بعض الصحف الإسرائيلية.
هكذا فإن الوجود الفلسطيني ليس إلا استكمالا ترفيهيا للحكاية الإسرائيلية التي لا بد من وجود الأشرار فيها حتى يكون البطل خيّراً، كما لا بد من وجود آكلي لحوم البشر حتى يكون المستعمر متحضراً.
يبدو عنوان المقال مضللاً بعض الشيء إذ إنه يفترض أن كيري من بين أقرانه في السياسة الغربية مستشرقاً، والحقيقة أن جل المقاربات السياسية الأميركية للمنطقة تنطلق من وعي استشراقي بحت، والأمر ذاته ربما ينسحب في جزء كبير منه على السياسية الأوروبية وتحديداً سياسات القوى الكبرى وقوى الشمال الأوروبية.
لكن ما أردت توضيحه هو كيف أن مقترحات كيري ليست إلا استدراكات لجمل استشراقية كبرى شربها كيري ورضعها في منهاج المدرسة، لكنه للأسف لم يفلح طوال احتكامه بالفلسطيني المسلوب الحقوق والحرية في أن يرى الجانب المظلم في هذا الوعي.

 

الأيام