الحاضر فلسطينيّاً وسوريّاً، بعد الماضي مسيحيّاً ويهوديّاً

بقلم: 

تهبّ نُذر أخرى من مخيّم عين الحلوة الفلسطينيّ الملاصق للمدينة كما تهبّ عليه. وهنا تتبلور رواية موازية تماماً للرواية الشيعيّة - الصيداويّة. لكنّ الروايتين تسلكان الطريق نفسه، فتبدآن بالسجلّ الناصع للتعايش وتنتهيان متقاطعتين وراسمتين ما يشبه توازن رعب قد ينشأ بين الحارة الشيعيّة والمخيّم الفلسطينيّ الذي يجاورها ويساويها في عدد السكّان.
فالحال أنّه، فضلاً عن عين الحلوة، ثمّة أحياء فلسطينيّة كاملة في المدينة، وثمّة أخرى يتشارك فيها الفلسطينيّون والصيداويّون سكنَهم كما يتزاوجون ويتصاهرون. والأحياء المختلطة هذه لا يزال بعض أهلها من ثمار العلاقات التاريخيّة التي ربطت الساحل الصيداويّ بمدينتي عكّا ويافا قبل «النكبة»، علماً أنّ كثيرين من فلسطينيّي صيدا جُنّسوا وحملوا الجنسيّة اللبنانيّة. هكذا يروي نهاد حشيشو، مثلاً، أنّ أكثر من نصف طلاّب صفّه المدرسيّ في الخمسينات كانوا فلسطينييّن تدفع «الأونروا» أقساط تعليمهم. ولا يغيب عن تلك العلاقة الموقع الذي احتلّه الفلسطينيّون تقليديّاً شغّيلةً في بساتين الليمون، أحد أعمدة الاقتصاد الصيداويّ.
وقد قويت الشوكة الفلسطينيّة في المدينة عشيّة حرب السنتين. ذاك أنّ انتخابات 1972 العامّة عاقبت معروف سعد وأسقطته بوصفه شهابيّاً غير صافٍ في هواه الفلسطينيّ والعروبيّ، قبل أن تختطفه منظّمة الصاعقة». هكذا غدت المنظّمات، القادرة على التسليح، وحلفاؤها من أحزاب «الحركة الوطنيّة»، أصحاب اليد الطولى كمرجعيّة تضاءلت أمامها مرجعيّة الدولة المهيضة الجناح.
لكنّ سنوات الوصاية السوريّة غيّرت الحال. ذاك أنّ سياسة التفتيت وتفريخ التنظيمات لإضعاف حركة «فتح» فعلت فعلها. وبسببها صار فلسطينيّو عين الحلوة متعدّدي الرؤوس، لكنّهم صاروا بلا رأس فعليّ، بينما هاجر، على مرّ السنوات، معظم ذوي التأثير العاقل والإيجابيّ أو تقاعدوا وانزووا.
ومنذ مقتل الشيخ «الحبشيّ» نزار الحلبي صيف 1995، راح الإسلاميّون المتطرّفون يتجمّعون في المخيّم، إلى أن كانت حرب العراق في 2003، فقاتل بعضهم هناك وقُتل لهم عدد ضئيل. غير أنّ هذه الحالة التي تعايشت ظاهريّاً مع وضع المخيّم ومع تشرذم قواه، كانت تشهد تحوّلاً داخليّاً مهمّاً ما لبثت نتائجه أن انهمرت على الجميع. فظاهرة التكفيريّين كانت، بدفع من السوريّين وفي ظلّ تحالفهم مع «حزب الله»، تضخّ مقاتلين وانتحاريّين يتوجّهون إلى العراق. بيد أنّ هؤلاء ما إن يعودوا من فرن الأحقاد السنّيّة – الشيعيّة في بلاد الرافدين حتّى يتحوّلوا خصوماً ألدّاء للحزب الشيعيّ اللبنانيّ. فهم نسجوا هناك، بعيداً من أعين السوريّين، علاقات مع تنظيمات سنّيّة تقاتل الشيعة. وعندما عادوا، شكّلوا مصدر قلق للسوريّين تبعاً لانخراطهم في المزاج السنّيّ اللبنانيّ الذي انقلب كليّاً بعد 7 أيّار 2008، كما تحوّلوا أعداء لـ «حزب الله» «حريصين» على المدينة. وبحذر يستنتج الراوي ما لا يحبّ صيداويّون كثيرون الإقرار به، من أنّ هؤلاء يخاطبون هوى سنّيّاً في صيدا، هوىً يبحث عمّا يوازن الحزب المذكور قوّةً ويناظر طائفة الحزب عدداً. غير أنّ التحفّظ الصيداويّ لا يلبث أن يطلّ برأسه من جديد، إذ «لا يستطيع أحد أن يضمن التحكّم بهؤلاء التكفيريّين وبالأطراف والحوافز التي تملي عليهم أفعالهم».
والتحفّظ، هنا أيضاً، لا يخلو من وجاهة. فالقيادات السياسيّة في المدينة تبذل كلّها، وفقاً لحسن شمس الدين، جهوداً محمومة لمنع أيّ انفجار، وهناك قنوات تواصُل وبرامج مشتركة، شبيبيّة واجتماعيّة وثقافيّة وسواها، تسعى إلى الحيلولة دون بقاء المخيّم بؤرة معزولة. وهذا ما يحاصر التكفيريّين نسبيّاً ويحدّ جزئيّاً من قدرة المخيّم على إنتاجهم أو حَضنهم. فالإرهابيّ نعيم عبّاس، مثلاً، طاردته مخابرات الجيش في المخيّم نفسه وما لبث أن اضطرّ إلى الهرب منه.
ويصحّ القول إنّ القوى السياسيّة في صيدا لا يسعها، لأسباب عدّة، أن تتعاطى مع «عصبة الأنصار» و «جند الشام» وما يماثلهم من تنظيمات، بحيث تقتصر علاقات تيّار المستقبل مثلاً على معتدلي عين الحلوة كجماعة «فتح». وفي المعنى هذا، لا يستطيع الصيداويّون أن يتعاملوا مع تلك التنظيمات كظهير سنّيّ تسهل السيطرة عليه والتحكّم به. وبدوره، فإنّ «حزب الله» وأسامة سعد موجودان أيضاً في المخيّم من خلال جماعات مبعثرة صغرى، وهذا ما قد يُضعف قليلاً الاستقطاب السنّيّ – الشيعيّ أو يشذّب شفرته.
في المقابل، تبدو صيدا حين يُنظر إليها كنقطة تقاطع، مع الشيعة والفلسطينيّين، وبدرجة أقلّ مع المسيحيّين في شرقها من دون أن تكون بعيدة من الدروز، مؤهّلة للانفجار أكثر ممّا تبدو طرابلس. صحيح أنّ أمراً كهذا لم يحصل، الشيء الذي قد يعود جزئيّاً إلى حركة الأسير ودورها في امتصاص الحالة العنفيّة واستنفادها. وصحيحٌ أيضاً أنّ ممّا يستسهله اللبنانيّون، تبرئةً للنفس وتنصّلاً أو عنصريّةً، تحميل المخيّم الفلسطينيّ مسؤوليّات ليس وحده المسؤول عنها. فالفلسطينيّ عدنان المحمّد أقام في الزهراني، لا في عين الحلوة، بينما أقام نضال المغير، المتّهم بالتفجيرين الانتحاريين الأخيرين في بئر حسن، في قرية البيساريّة.
مع ذلك، يبقى من المقلق، مثلاً، أنّ الإسلاميّين المتشدّدين هم المتحكّمون بالمربّعات الأمنيّة في عين الحلوة. وقد أضحى هؤلاء، خصوصاً في حيّ الطوارئ في منطقة التعمير، أقوى من «فتح» والمعتدلين وأشدّ تأثيراً، لا سيّما منهم «جند الشام» وباقي المتطرّفين الموزّعين على تنظيمات شلليّة عدّة.
وأبعد من ذلك، ما يجسّده الجوّ المحتقن القابل أن يرتدّ على صيدا ومخيّمها، كائناً ما كان مسرح الأدوار الأولى ومصدرها. وقد رأينا في البيساريّة ردود الفعل الهائجة والمذهبيّة التي أدّت إلى تهجير عائلة المغير، وإحراق منزلها وسيّارتها، قبل الدعوة إلى طرد المخالفين المصحوبة بطلب الأمن الذاتيّ.
والهواء ينقل جراثيم العداوة بسرعة، خصوصاً حين تكون المسافة بين البيساريّة وصيدا أقلّ من 17 كيلومتراً.
فالمخيّم، والحال هذه، يمكن أن يكون، في وقت واحد، مصدر رهان ومصدر تنصّل، ومكاناً لتنفيس الغضب ومكاناً لاستقباله. وعلاقة كهذه بعين الحلوة، متعادلة ومتنازعة داخليّاً، لا تختلف في عمقها عن العلاقة بالأسير.

مسيحيّون ويهود
واقع الحال أنّ الإنكار متمكّن من نفوس الصيداويّين. فهم استدخلوه إلى حدّ يبدو معه كأنّ الماضي الذهبيّ للتعايش في ظلّ دولة قويّة نسبيّاً لا يزال راهناً ومَعيشاً. هكذا ترى كثيرين منهم يتحدّثون عن صيدا بوصفها، أيضاً، مدينة للمسيحيّين واليهود، مؤكّدين على التعايش، ومذكّرين بأنّهم درسوا في مدارس مسيحيّة أو نصبوا في بيوتهم أشجار عيد الميلاد.
وهنا ينتاب السامعَ أنّه أمام حوار في مسرح العبث. ذاك أنّ أكثر ما يُقلق في الحاضر هو، بالضبط، تذكّر ذاك الماضي وما آل إليه. فلمّا كان اليهود والمسيحيّون سابقين في التعرّض لمطحنة العلاقات الأهليّة، بقيت الخشية مبرّرة من أن يكون هناك لاحقون.
لقد عاش اليهود طويلاً في صيدا، وكانت لهم حارة تسمّت باسمهم، وملكيّات أرض ومصالح تجاريّة. لكنّهم في عزّ الزمن الذهبيّ للتعايش، لم يفقدوا إحساسهم بالحذر الذميّ وضماناته. هكذا درجوا على تقسيم أصواتهم مناصفة في الانتخابات النيابيّة فكانوا يعطون النصف لمعروف سعد والنصف الآخر لنزيه البزري. ويروي نهاد حشيشو الذي كان على رأس حملة سعد الانتخابيّة في 1972، آخر انتخابات ما قبل الحرب، أنّ عدد المقترعين منهم يومذاك كان 37 صوتاً فاقترع 19 لمعروف و18 لنزيه.
لكنّ هجرة اليهود التي بدأت مع إنشاء إسرائيل في 1948، توالت فصولاً في موازاة المواجهات الكبرى للصراع العربيّ – الإسرائيليّ، حتّى إذا قامت حرب 1973 لم يعد هناك يهود في صيدا.
أمّا المسيحيّون، وأغلبهم كاثوليك، فمع حرب السنتين بدأت أعدادهم تتراجع، لتتصاعد هجرتهم نوعيّاً مع حروب منتصف الثمانينات. حينذاك، وفي مناخ الاجتياح الإسرائيليّ والتكاره الأهليّ المفتوح، هُجّر مسيحيّون ردّاً على تهجير «القوّات اللبنانيّة» مسلمين من شرق صيدا إلى صيدا نفسها، ثمّ كانت الأسلمة التي أعقبت الانسحاب الإسرائيليّ من المدينة في 1985. فقد فرض «حزب الله» منع الخمور وبيعها هناك، وتمّ الفرض عبر رموز محليّين سمّى أحدُ الصيداويّين الشيخَ ماهر حمّود بوصفه أبرزهم. وحتّى اليوم لا يباع الخمر ولو في مخازن «سبينس»، كما لا تقدّمه المطاعم باستثناء «الاستراحة» في مدخل المدينة والتي تعود ملكيّتها إلى وزارة السياحة.
وهنا أيضاً، في العلاقة مع المسيحيّين، كان ثمّة عصر ذهبيّ يُستدلّ عليه بآثار كثيرة قديمة وحديثة في عدادها «مدرسة الأميركان» الشهيرة التي علّمت صيداويّين وجنوبيّين كثيرين. وعلى صعيد المنطقة، يشار إلى التواصل التقليديّ المتين بين صيدا وجزّين المسيحيّة التي ظلّت، حتّى 1975، مصيف الصيداويّين. وهذا فضلاً عن المسار الذي اتّخذته العلاقة بشرق صيدا. ففي بداية السبعينات بدأ أغنياء وأبناء طبقة وسطى صيداويّون يعمّرون شرقاً، وشرقُ صيدا المسيحيّ كان قليل العدد، فيما لا تتعدى مساحة مدينة صيدا، التي كانت تضمّ مئتي ألف نسمة، الـ5,4 كلم2.
وربّما أمكن تفسير الأمر جزئيّاً بخليط من المعطيات الجغرافيّة والعمرانيّة، كما بالتقسيمات الإداريّة المعمول بها. لكنّ المؤكّد أيضاً أنّ الخيار نفسه يحتفظ بدلالات أخرى مهمّة. ذاك أنّ التمدّد السكنيّ اتّجه شرقاً نحـــو المسيحيّين، لا نحو شيعة الجنوب ولا حتّى نحو سنّة إقليم الخرّوب.
لقد تداخلت صيدا مع الهلاليّة وعبرا وباقي الهضاب المسيحيّة في شرقها، ومع انقلاب الأزمنة بات تمدّد العقارات وبناء المجمّعات يخيف مسيحيّي شرق صيدا. هكذا، وعملاً بقاموس الطوائف وحصصها وذعر واحدتها من الأخرى، وُجد من يصف معركة الأسير في عبرا بأنّها مواجهة بين سنّة وشيعة على أرض مسيحيّة.
أمّا في داخل المدينة، فباتت العائلات المسيحيّة الصيداويّة، كعودة ودبّانة، لا تزور صيدا إلاّ «في المناسبات»، أو لتفقّد أملاك ما زالوا يملكونها، وكنائس صامتة تدلّ إلى وجودهم السابق. فهم، في لوائح الشطب، يعدّون حتّى اليوم ما بين أربعة آلاف وخمسة، إلاّ أنّهم، في الواقع، أقرب إلى الانقراض.
ويقرّ نهاد حشيشو بأنّ «لدى جيلنا والأجيال الأكبر سنّاً حزناً وحرقة على اليهود والمسيحيّين الذين رحلوا»، لكنّ الحزن والحرقة يصغران كلّما صغرت الأعمار.
فذلك مزاج لا ينسحب على جيل لم يعرف جاراً يهودياً أو حياً مسيحياً بمحاذاته فلا يحن بالتالي إلى ما يجهل. ذلك أن الشبيبة الأكثر انشداداً إلى الشأن العامّ تستقطبها اليوم ميول وعواطف عدّة تتمايز فيها عن الآباء. من ذلك، مثلاً، هموم بيئيّة وعمرانيّة وإنمائيّة تسعى الى المواءمة بين رغبة في تطوير المدينة وتحديثها والحفاظ على «أهليّتها» بعيداً من النموذج الذي أرسته «الحريريّة» في «سوليدير».
لكنّ الأهمّ، في ما خصّ ذكرى الأقلّيات الآفلة، أنّ الحزن والحرقة لم يتحوّلا إلى مراجعة تستخلص الدروس والعبر وتضعف احتمالات تكرار المآسي الأهليّة باسم قضيّة ما.

السوريّون وثورتهم
لم يصبح السوريّون خطّاً نافراً من خطوط اللوحة الصيداويّة. فهم يعدّون نحواً من 8 آلاف عائلة، وثمّة تجمّع كبير لهم على مدخل صيدا الشماليّ، عند جسر الأوّليّ، حيث سكنوا مباني لم تكتمل وتحوّلوا جماعةً لها مرجعيّتها، ثمّ اشتبكوا مع عاملين في مؤسّسات الإغاثة. وهذا ما أربك المدينة قليلاً كما أربكها تجمّع آخر ووقائع مشابهة على طريق شرق صيدا.
لكنّ صيدا لا تكنّ عداء للسوريّين، وهي تعرفهم تقليديّاً عمّالاً في الزراعة والبناء منسجمين مع نسيجها وعلاقاتها. أمّا الذين وفدوا إليها بعد الثورة، فبات مصلّوهم يصلّون في الجوامع ذاتها، وصار بعضهم مقرئين فيها. ولئن فتحوا القليل من محلاّت الغذاء والحلوى، فهذه لا تزال أقلّ كثيراً، وأضعف كثيراً، من أن تطلق منافسة مع الصيداويّين.
فالمزاج الشعبيّ، كما يقول عدنان الزيباوي، متعاطف مع الثورة، أمّا العواطف الفلسطينيّة فهي الأخرى مناهضة للنظام السوريّ.
بيد أنّ الجوّ الأقلّيّ حاضر أيضاً ولو بانكفاء. فأسامة سعد، المقرّب من «حزب الله»، استمرّ على مواقفه المتحفّظة عن الثورة، وإن بتبريريّة ودفاعيّة ينعكس فيهما خوفه من اهتزاز يضرب قاعدته. ويلوح أنّ ظهور التكفيريّين في سوريّة أنعشه قليلاً وأضاف شيئاً من التماسك إلى حججه. والأمر نفسه، وبحدّة أكبر، يُلحَظ في أصوات ضعيفة التمثيل كالشيخ ماهر حمّود، المتشدّد في عدائه للثورة السوريّة، والذي لا يرى فيها إلاّ التكفيريّين. وهو يمضي على هذا الرأي «على رغم كلّ ما يُنسب إلى الأسد، صحيحاً أكان أم كاذباً» كما يقول. فحين يتحدّث لا تقابل لغةَ التخفيف هذه إلاّ لغةُ الجزم والقطع في إعلان «التعاون مع إيران و «حزب الله» والشيعة ككلّ» وفي نفي كلّ التهم التي يوجّهها الصيداويّون إلى «حزب الله» ومشاركته في معركة عبرا.
وأغلب الظنّ أنّ انخراط «حزب الله» في الحرب السوريّة يقصّر المسافة التي لا تزال تفصل بين أطراف شديدة التناقض، كلٌّ منها يمتلك أطناناً من الزيت ويمضي في التزوّد به، وكلٌّ منها ينفي وجود النار.

الحياة