إسرائيل و... ديموقراطيتها المثقوبة!

بقلم: 

ثلاثة تشريعات مهمة أقرّها البرلمان الإسرائيلي في الأيام الأخيرة. أما مؤدّاها فهو الرغبة في إحكام النُخب للسيطرة على الوضع السائل في الدولة العبرية. يقضي أحد التشريعات بعدم الانسحاب من أي منطقة محتلة من دون إقرار ذلك في استفتاء عام للرأي. وفي الثاني محاولة لفرض تجنيد زاحف (بأعداد قليلة ثم بأعداد اكبر) في الجيش أو خدمة معادلة، على المتدينين من المذاهب المتزمتة. وفي الثالث رفع نسبة الحسم في انتخابات البرلمان، لتعزيز حضور الكتل الكبيرة على حساب الصغيرة.
المتتبع لهذه التشريعات منذ بداية الترويج لها سيجد أن وراءها نُخباً جديدة تحالفت لتكريس سؤددها الراهن وضمان قاعدتها الشعبية الانتخابية في الدرجة الأولى. لكن الهدف الأبعد قليلاً هو تصميم وعي إسرائيلي جديد، على أساس إجماع يُقيم دمجاً جديداً بين يهودية الدولة وصهيونيتها. وهو تطوّر يُقصد به تأطير الاصطفاف الحالي للقوى السياسية وإنتاج أعراف مجتمعية جديدة على أساس هذا الاصطفاف - تجنيد للجميع وتحجيم القوى السياسية الصغيرة وبينها الكُتل العربية في البرلمان، وتكريس الاستيطان وإعاقة كل تسوية مُقترحة مع الفلسطينيين!
علاوة على ذلك، الثلاثة التشريعات المذكورة تشكل مرحلة جديدة في حياة المجتمع الإسرائيلي تغيّر من أنساق وأعراف حكمت تطوره وعلاقاته الداخلية. فقانون تجنيد المتدينين المتزمتين مثلاً يشكل إنهاء لاتفاق ضمني بين العلمانيين والمتدينين المتزمتين قائم منذ بداية الخمسينات، يُعفى في إطاره المتدينون من دخول أتون الصهر الإسرائيلي - بناء الأمة، والاحتفاظ بهويتهم الدينية الثقافية الأصولية بعيداً من حداثة الدولة العبرية! وقانون الاستفتاء العام يعني إلغاء الخط الأخضر وإغلاق الباب أمام أي مساومة على الكتل الاستيطانية الكبيرة والصغيرة! أما قانون رفع نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانية باسم زيادة القدرة على الحَوْكمة فيعني ضمناً الحدّ من تمثيل الفلسطينيين في إسرائيل داخل البرلمان الإسرائيلي، أو منعه.
في الحالات الثلاث كانت السياسة الإسرائيلية امتنعت عن الحسم بهذه الاتجاهات وأبقت الأبواب مفتوحة. وأتى الحسم بهذا الاتجاه بحُكم انزياح الفئات الوسطى الجديدة باتجاه التطبيع مع الاحتلال ومع الاستيطان في أقلّه.
يُمكننا أن نرى إلى ما يحصل داخل إسرائيل على أنه اندفاع لليمين السياسي نحو تعزيز هيمنته في الداخل، لمواجهة ضغط الخارج. وهو ضغط تزايد منذ اعتمد الفلسطينيون رسمياً استراتيجية المقاومة اللاعنفية وخيار الديبلوماسية.
لقد تقلّصت قدرة إسرائيل على المناورة في الحلبة الدولية، فشرعت النُخب تُحصّن بناءها الداخلي عبر التشريع وإعادة بناء التوازنات الداخلية. ومما فعلته في السنوات الأخيرة إعادة إنتاج الهوية اليهودية الشوفينية للمجتمع، كمحاولة لمقاومة المدّ الليبرالي في السياسة والاقتصاد والأعراف والتشريعات. بمعنى آخر، في مواجهة تفكيكات حصلت بفضل الخصخصة الاقتصادية المتسارعة التي تحولت خصخصة للأيديولوجيا والقِيَم الجامعة اللامّة. من جهة أخرى، هناك حاجة لمواجهة الضغط الدولي لإحقاق تسوية مع الفلسطينيين، في مركزها إنهاء الاحتلال على نحو ما وإحقاق مساواة معقولة للفلسطينيين في إسرائيل - هكذا تضغط منظمة التعاون الاقتصادي OECD والاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية وجاليات يهودية في الخارج. وتتم المواجهة بسعي إلى اكساب الهوية اليهودية للدولة مضامين جديدة تتعارض مع فلسفات التيارات الصهيونية المتنفّذة أو تتناقض مع نزعات اللبرلة الحاصلة ولصدها. وهي مضامين قومجية وعسكرانية تقلّص مساحة الدولة المدنية وتضيّق حدود المواطنة. فلا ضير مثلاً - والحالة كهذه - في فرض تنشئة جديدة للمتدينين اليهود المتزمتين من خلال تجنيدهم أو وقف تمويل مؤسساتهم، أو في فرض «جَتمعة» جديدة على الأقلية الفلسطينية في إسرائيل بفرض نوع من الخدمة الوطنية على بناتها وأبنائها وإلا فالإقصاء من اللعبة السياسية البرلمانية.
اتسعت الليبرالية في إسرائيل، الأمر الذي تُواجهه القوى المحافظة بارتداد نحو الهوية اليهودية المتجددة وبخروج على المألوف في المعاهدة الاجتماعية ومنظومة الأعراف والتوازنات المعمول بها منذ عقود. وزاد الضغط الخارجي الديبلوماسي والاقتصادي - المقاطعة المتدحرجة - باتجاه إحقاق تسوية فاستثمرته القوى المحافظة ذاتها لشحن عقيدتها اليهودية بمزيد من التعصّب ومعاداة الغير، الفلسطيني والعربي والأجنبي. وهو توجّه سيتغذّى في المرحلة المقبلة من الضغوط الخارجية على الدولة العبرية، ومن الضغوط الداخلية أيضاً. وقد يُفضي بإسرائيل إلى الانعزال الإرادي الذي سيؤثّر سلباً في اقتصادها، وإلى توترات اجتماعية وسياسية داخلية.

الحياة