فلسطين و"إسرائيل" والمفاوض الديكتاتور

بقلم: 

تستبق "إسرائيل" انتهاء المفاوضات الجارية الآن مع الفلسطينيين بأكثر من خيار، وتتعامل مع الفشل قبل أي إمكانية لاحتمالات التوصل لتسوية سياسية جديدة يحكمها إطار اتفاق يحاول وزير الخارجية الأمريكية جون كيري فرضه على الفلسطينيين قبل "الإسرائيليين"، موظفاً الورقة الأخيرة بيده وهي تدخل الرئيس أوباما في المرحلة النهائية، ولهذا التدخل دلالات كثيرة وخصوصاً على الجانب الفلسطيني، إن "إسرائيل" تلجأ إلى نموذج الديكتاتور في حال فشل المفاوضات، وهذا الخيار من بين النماذج العديدة التي تطبق على المفاوضات الفلسطينية "الإسرائيلية"، وأذكر منها النموذج الدبلوماسي، والفوضوي، والنموذج الديمقراطي .
والسؤال هنا لماذا فشلت كل هذه النماذج؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى وقفة تحليلية حتى نتعرف إلى أبعاد السلوك السياسي "الإسرائيلي" في المفاوضات، وكيف تفكر؟ أما النموذج الديكتاتور فيقوم على فكرة جوهرية، وهي فكرة القوة والقدرة على الفعل من جانب واحد . ويتضمن هذا النموذج قدرة أحد الطرفين، أو أطراف أخرى خارجية على فرض تصرف أو فعل من جانب واحد ليؤثر في المفاوضات النهائية، أو لمواجهة فشل العملية التفاوضية . إذن هو خيار ونموذج الطرف القوي في المعادلة التفاوضية .
ولكن يبقى السؤال هل الطرف الضعيف لا يملك هذه القدرة حتى مع ضعفه؟ هذا التصرف الأحادي قد يكون في شكل عملية عسكرية تفرض وقائع سياسية على الأرض لا يمكن للمفاوضات تجاهلها، أو بعبارة توجد واقعاً جديداً، لا يخضع للتفاوض . وقد يكون العمل ديبلوماسياً أو سياسياً مثلاً بقطع علاقات ديبلوماسية من طرف واحد أو بسحب الاعتراف، وهذا النموذج يحتاج إلى وجود قيادة قوية، مؤثرة قادرة على اتخاذ القرار، ولديها قاعدة سياسية داخلية داعمة، وقوى دولية مساندة .
ومن الأمثلة الواضحة قرار الرئيس السادات بالذهاب إلى القدس وإلقاء خطاب أمام الكنيست "الإسرائيلي"، وهو القرار الذي كانت له تداعيات خطرة على مستقبل الصراع العربي "الإسرائيلي" أولاً باستبعاد الخيار العسكري أو خيار الحرب، وثانياً اختزال القضية الفلسطينية في إطارها الفلسطيني "الإسرائيلي"، وكأنها لم تعد قضية أمن قوى وأولوية عربية . ومهدت هذه الزيارة لمفاوضات السلام بين مصر و"إسرائيل" . المثال الثاني على هذا النموذج قرار شارون بالانسحاب الأحادي من غزة، وأدت إلى فصل غزة عن الضفة، وكانت له تداعيات خطرة على الوضع الفلسطيني، وإن لم يؤدِ إلى مفاوضات ناجحة، لكنه أدى إلى زيادة موجات العنف، وتعميق حالة الانقسام السياسي الفلسطيني إلى درجة إجهاض الخيارات الفلسطينية، واجبرت السلطة على البحث عن حل تفاوضي لأن البديل لذلك هو حالة من الفوضى قد تطيح السلطة بالكامل . لكن هذا الانسحاب الأحادي وضع الأساس لإمكانية الاتفاق في المستقبل من خلال الحلول الوسط والانسحاب من بعض المستوطنات إذا لزم الأمر في حال التوصل لاتفاق إطار مع الجانب الفلسطيني .
صحيح أن هاتين الخطوتين لم تنهيا الصراع، وأوجدتا مشاكل كثيرة، لكنهما أرسيتا الأساس لإمكانية تسوية نهائية . وعموماً هذا النموذج يشير إلى وجود قيادة قوية قادرة على اتخاذ القرار كما في حالتي السادات وشارون، وهذا النموذج أسس لفكرة القوة والواقعية، واعتماد القوة مثل "إسرائيل" في فرض تصوراتها للحول النهائية للصراع العربي "الإسرائيلي" وليس كما يعتقد أن هذه القرارات الأحادية يمكن أن تأتي بنتائج إيجابية، لأن النتائج والتداعيات تتوقف على العديد من المحددات والمعطيات الداخلية والإقليمية والدولية، وكلها قد تدخل في مرحلة عدم اليقين .
بمعنى أن، النتائج قد تأتي عكس ما يتم توقعه خصوصاً في حالة الطرف الضعيف، الذي لا تكون لديه الخيارات البديلة، والقدرة على تحمل النتائج العكسية والسلبية لمثل هذه القرارات الأحادية . وهنا تكمن المقارنة بين الموقفين الفلسطيني و"الإسرائيلي" . واليوم قد تكرر "إسرائيل" نموذج الانسحاب الأحادي من الضفة الغربية، وفرض تصور نهائي للمفاوضات، واضعة الطرف الفلسطيني أمام خيارات محدودة، ومستفيدة من أوراق الضغط التي يمكن أن تمارسها ضده خصوصاً الورقة الاقتصادية والمالية، وانغماس السلطة في حالة من الضعف الاقتصادي الذي قد يترتب عليه انهيار السلطة، وبروز حالة من الفوضي تعيد نموذج غزة من جديد .
وهنا السؤال هل تملك السلطة الفلسطينية القدرة على اتخاذ قرارات أحادية تحبط الخيارات "الإسرائيلية"، أو تفرغ القرار "الإسرائيلي" بالانسحاب الأحادي من الضفة الغربية من مضامينه السياسية؟ الوضع الفلسطيني لا يسمح كثيراً بالقدرة على اتخاذ خطوات أحادية، وإن توجهت للأمم المتحدة مثلاً فسيحتاج الأمر إلى مزيد من الدعم العربي . كما أن الانقسام السياسي أفقد الفلسطينيين القدرة على وجود قيادة لها التأثير نفسه الذي كان لها قبل ذلك، حتى عندما ذهب الرئيس الراحل عرفات لتطبيق هذا النموذج باندلاع الانتفاضة الثانية، كانت النتائج والتداعيات السلبية أكبر بكثير على الجانب الفلسطيني . وما يمكن للفلسطينيين القيام به هو أن يجعلوا "إسرائيل" تفكر وتعيد حساباتها ذلك أن نموذج غزة لا يمكن أن ينطبق على الضفة الغربية .
لا أعتقد أن هذا النموذج قابل للتطبيق في مرحلة التحولات الإقليمية والدولية، وفي ظل التحديات الجديدة التي تواجه "إسرائيل"، وأيضاً الفلسطينيين . وعليه فإن الخيارات البديلة، ستكون مؤلمة للطرفين، وإن كانت للجانب الفلسطيني أكبر .

الخليج