نحن وإسرائيل ...لا توجد وجبات مجانية!

بقلم: 

أحد المتطلبات الرئيسية لنجاح أية محاولة لحل نزاع بين طرفين هو أن يكونا قد تعبا من ذلك الصراع وأن لكليهما مصلحة وفائدة في حله. وإذا ما حاولنا تطبيق هذا المبدأ على " المفاوضات " الاسرائيلية الفلسطينية لوجدنا أنه لا ينطبق عليها لأن إسرائيل تجني الفوائد الجمة من استمرار الاحتلال ولم تتعب منه وستخسر إذا تحققت أية تسوية جدية تنهي الاحتلال وتعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المسلوبة .

فإسرائيل تستولي على أجمل الأراضي في الضفة الغربية وتستخرج منها الثروات الطبيعية وعلى رأسها المياه والصخور لاقتطاع الحجارة أو الحصمة وربما البترول - الذي بدأت مؤخرا تنقب عنه - ، وتستغل الأراضي للزراعة والتوسع السكاني والمناورات العسكرية والتنزه والسياحة والتخلص من الفضلات الطبية وغير الطبية ، واستخدام الأرض والفضاء للمناورات والتدريبات العسكرية بالاضافة إلى أن الأراضي الفلسطينية تشكل سوقا رئيسيا للمنتجات الصناعية والغذائية والزراعية الاسرائيلية تقدر سنويا بمليارات الشواكل.

كل هذا إضافة الى الغرامات والضرائب والرسوم المباشرة وغير المباشرة التي تتم جبايتها من الفلسطينيين كغرامات المحاكم العسكرية ومخالفات السير والبناء ورسوم المعابر والجمارك وغيرها .

هذا الاحتلال ليس مكلفا بل هو مربح واستثمار بدون رأسمال يدر الدخل السخي على الخزينة الاسرائيلية.

وإذا أضفنا إلى هذا الدخل حقيقة أن إسرائيل لا تتحمل أية مسؤولية تجاه السكان الذين تحتلهم وتقيد حريتهم وفقا لمعاهدات جنيف التي تحمل الدولة المحتلة مسؤولية رخاء السكان الذين هم تحت احتلالها والقلق على تلبية احتياجاتهم الصحية والتعليمية والاجتماعية وغيرها لأن هذه المهام أصبحت تتم من قبل السلطة الفلسطينية وبدعم من الدول المانحة ، فإن بالامكان القول بأن إسرائيل تقبض ولا تدفع شيئا وأن الدول المانحة أصبحت هي الممول الداعم لميزانية الاحتلال ، وأن السلطة قد أصبحت تقوم بالمهام الخدماتية التي هي من صميم واجب الاحتلال بينما يتفرغ هو لجني الفوائد والأرباح والحفاظ على أمنه ضد أية بادرة للرفض من قبلنا.

ولقد أدى هذا الوضع ومع مرور الوقت إلى أن أصبحت السلطة الفلسطينية رهينة المساعدات الدولية ووجدت نفسها في الزاوية فهي لا تستطيع أن تتخلى عن شعبها وتلقي به في متاهة الفقر والجوع والفوضى والضياع وهي لا تستطيع من الناحية الأخرى الاستمرار في القيام بأداء مهمة الاحتلال الخدماتية دون أن يكون هناك أفق للحل أو الخلاص من الاحتلال.

وأكثر من ذلك فقد التزمت السلطة الفلسطينية وخاصة بعد خريطة الطريق لعام 2002 بمحاربة الارهاب ووجدت نفسها أمام حقيقة جديدة تضع مقاومة الاحتلال تحت مسمى الارهاب وأصبحت تتعرض للضغط والابتزاز ومطالبة بمنع المقاومة المسلحة وأن عليها أن تعتقل وتصادر السلاح وإن لم تفعل ذلك فإنها متهمة بغض النظر عن " الارهاب والارهابيين" وهذا الأمر لا تستطيعه ولا تقدر عليه ، وهي مطالبة أيضا بتكميم الأفواه ومنع أي انتقاد للاحتلال بحجة أنه تحريض وأنها إن لم تمنعه فهي تشجع " التحريض " ضد إسرائيل.

فالصورة إذن هي أن الاحتلال هو بئر بترول للاسرائيليين وأن السلطة في الزاوية ومتهمة من قبل فئات من بين أبناء شعبها بقمع المقاومة ضد الاحتلال ومتهمة من قبل الاحتلال بأنها تتساهل مع " الارهاب " وتشجع التحريض ضد إسرائيل ، واستخدام ذلك ذريعة من قبل الاسرائيليين لعدم التعامل الجدي مع جهود التسوية ،والتقدم بطلبات جديدة كل يوم لإفشال المفاوضات وإعاقتها كان آخرها المطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة الاسرائيلية قبل المضي قدما في التفاوض.

وأمام هذه الحقيقة فإن علينا أن نتفهم لماذا لا يسارع الاسرائيليون إلى مائدة المفاوضات ولماذا لا يتوسلون لنا أو للمجتمع الدولي مطالبين بحل عادل لهذا الصراع يريحهم من دفع ثمن الاحتلال ويخفف عنهم أعباءه ويجعل الحل بالنسبة لهم مغنما وليس مغرما.

وأمام الاحباط الناتج عن استمرار الاحتلال وفشل المفاوضات وغياب أفق سياسي للحل ، فقد بدأنا نتآكل من الداخل وبدأ الصراع الداخلي يأخذ أشكالا متعددة كان الانقسام أبرزها . ومع أن حماس حاولت تغليف الانقسام بأنه اختلاف على المنهج وأنها هي التي تريد أن تقاوم وأن السلطة ترفض وتمنع المقاومة وتهرول وراء سراب الحل السياسي إلا أن الحقيقة والواقع ، وخاصة بعد حرب غزة واتفاقية وقف اطلاق النار التي تمت بوساطة مصرية ، قد أثبتت بأن حماس هي الأخرى قد تخلت عن خيار المقاومة المسلحة وتحولت إلى أداة لقمع أي تنظيم يحاول إطلاق الصواريخ من القطاع باتجاه إسرائيل ولم تعد تملك الحق بالمزايدة على القيادة في الضفة.

و لا شك بأن هذا الواقع القائم في الضفة وقطاع غزة هو الوضع الأمثل بالنسبة لاسرائيل وهو السبب الرئيس الذي يزيد متطرفيها تطرفا وسياسييها هروبا من استحقاقات الحل السياسي ، وهو الذي يشجع على ظهور وتنامي الحركات والجماعات اليهودية المتطرفة التي تعارض الحل السياسي وتتنكر لحقوق ووجود الشعب الفلسطيني وتعمل على تكثيف الاستيطان وتسعى للاستحواذ على القدس وتغيير الأمر الواقع في المسجد الأقصى.

والنتيجة البديهية التي يمكن التوصل إليها هو أنه إذا أردنا أن نرى نهاية لهذا الصراع ونجاحا للجهود المبذولة من أجل التوصل إلى حل سياسي فإن أول ما يجب أن نعمله هو أن نجعل هذا الصراع مكلفا ً لاسرائيل وعبئا عليها بدلا من أن يكون مربحا. وعندها ستكون لاسرائيل مصلحة في تحقيق الحل . والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن أن يتم ذلك؟

ومنعا ً لأي لبس أو غموض ٍ فإنني أقول بأنني لست من دعاة الكفاح المسلح لأن كل المعطيات الفلسطينية والعربية والاقليمية وتجربة الماضي والحاضر قد أثبتت بأننا تجاوزنا المرحلة التي كان يمكن للكفاح المسلح أن يحقق فيها نتيجة ، وأن هذا لم يعد خيارا مطروحا أمامنا ، وأنه لم يبق أمامنا سوى البحث عن الوسائل الأخرى غير العنفية التي يمكن أن تجعل هذا الاحتلال مكلفا ويرغم إسرائيل على إعادة النظر في مجمل سياساتها. وعلينا ونحن نفتش عن تلك الوسائل أن نضع خيارات وسيناريوهات متعددة ومتوازية.

ويقينا أن لدى مثقفي ومناضلي وقادة هذا الشعب القدرة على ابتكار العديد من وسائل النضال اللاعنفي التي تستطيع أن ترهق الاحتلال وتثقل كاهله وتضطره الى الرضوخ.

ومن بين هذه الوسائل على سبيل المثال لا الحصر مقاطعة كل البضائع والمنتوجات الاسرائيلية قولا وفعلا وليس مجرد شعارات أوانفعالات موسمية أو استعراضية أمام وسائل الاعلام ، وكذلك الامتناع عن دفع الغرامات والضرائب والرسوم وتحول الرفض إلى حالة جماهيرية وعندها لن تستطيع إسرائيل حبس كل الناس. والأمثلة على وسائل المقاومة اللاعنفية كثيرة لا أرى من المجدي الآن الاستمرار في سرد الأمثلة عليها ، ولكن إنضاج الفكرة والبدء بتنفيذها هو الأهم.

وعلينا ونحن نقوم بحقنا في المواجهة اللاعنفية مع الاحتلال ألا ننسى الدور الهام الذي يمكن أن تقوم به شريحة من الاسرائيليين الذين يرفضون الاحتلال ويؤيدون حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والحرية والعيش كريما على أرضه. هؤلاء هم شركاؤنا في النضال ضد الاحتلال والتطرف والتمييز العنصري وهؤلاء هم مثلنا بحاجة إلى السلام والهدوء والأمن ولا بد من تطوير العمل على ساحة الرأي العام الاسرائيلي وتجنيده للضغط على حكومته لكي تستجيب لمتطلبات واستحقاقات السلام.

وعلينا ونحن نخوض المواجهة اللاعنفية الشاملة مع الاحتلال أن نزيد رقعة التضامن الدولي مع شعبنا وأن نبذل أقصى قدر من الجهد لوضع العالم أمام الوجه الحقيقي للاحتلال العنصري الذي نواجهه وأن ننشط على الساحة الدولية لتوسيع رقعة المقاطعة والضغط على إسرائيل.

ولا شك بأننا إذا توصلنا إلى القناعة بأن الطريق للاستقلال هو جعل الاحتلال مكلفا لاسرائيل وعبئا عليها ، فإن على السلطة الفلسطينية أن تعيد النظر في التوصيف الوظيفي لها ، وأن تقف إلى جوار شعبها ومعه في نفس الخندق.

ولا بد هنا من التأكيد بأنني لا أطالب بحل السلطة بحجة أنها أصبحت مقاولا يقوم بالمهام الخدماتية نيابة عن الاحتلال كما يطالب البعض ، وإنما العكس تماما ، فالسلطة اكتسبت اليوم اعترافا دوليا بأنها دولة وهذا هو إنجاز وطني وقومي للشعب الفلسطيني ، وعلينا تأكيد التمسك بالاعتراف الدولي بدولة فلسطين والسعي لاستغلال ذلك في كل المحافل والمنظمات والهيئات الدولية لتثبيت الاعتراف بالدولة ومطالبة المجتمع الدولي القيام بواجباته وفقا لميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الانسان والمعاهدات والمواثيق الدولية لرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني وإنهاء احتلال أراضي دولة اعترفت بها الأمم المتحدة وأصبحت عضوا في المجتمع الدولي.

وعلينا أن نفهم مسبقا بأن إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي وإنما ستقوم بخطوات استباقية لتنغيص حياتنا وجعلها لا تطاق لإرغامنا على التراجع والخلود للراحة ، وعلينا أن نضع السيناريوهات المتوقعة للرد الاسرائيلي ونعد العدة لكيفية التعامل معها.

ولا شك بأن إعادة ترتيب البيت الداخلي وشد الأحزمة على البطون وتحمل ضنك العيش ولو لفترة قصيرة نتيجة الاجراءات العقابية التي سيرد بها الاحتلال ستكون هي الطريق لوضع حد لعذاباتنا ومعاناتنا وتحقيق الاستقلال والحرية . وإذا ما تبنينا مثل هذا الخيار فإنه سيحق لنا أن نتوقع انفراجا في الجهود التي ستبذل لتحقيق التسوية ، من خلال مفاوضات متكافئة تتوفر لنا فيها وسائل الضغط لا استجداء ولا طلب للعدل من الظالم ، وكما يقولون .." لا وجبات مجانية !."

 

المصدر: 
القدس