حقائق تتجاهلها قيادة "حماس"

بقلم: 

يوم الثلاثاء الماضي أصدرت "محكمة الأمور المستعجلة" في القاهرة قراراً يقضي بحظر نشاطات حركة "حماس" والتحفظ على مكاتبها وأموالها وتقييد حركة أعضائها . لم يصنف القرار الحركة منظمة إرهابية كما طالب رافعو القضية، ولم تتضح بعد ماهية وحدود الإجراءات العملية المترتبة عليه، لكن مجرد صدوره يعني أن الحصانة المعنوية والأخلاقية والسياسية ل"حماس" كحركة فلسطينية مقاومة تقاتل "إسرائيل" قد صارت مجال طعن مصرياً، بل عربياً أيضاً، وعلى المستويين الرسمي والشعبي .
ولا شك في أن لأمر كهذا تداعيات بعيدة المدى على الحركة بالمعنى الشامل للكلمة . وغني عن الشرح أن هذا الطعن لم يطل أياً من حركات المقاومة الفلسطينية الأخرى، بل لم يكن ليطال حركة "حماس" لولا خصوصية أنها الفرع الفلسطيني لجماعة "الإخوان المسلمين"، ما يثبت أن مصير الحركة يرتبط صعوداً وهبوطاً، ويتأثر إيجاباً وسلباً، بمصير الجماعة الأم . ف"حماس" بقدر ما استفادت ولا تزال تستفيد من الدعم الشامل الذي تتلقاه من "الإخوان" وتنظيمهم الدولي، فإن عليها أن تسدد فواتير خطاياهم في كل مكان، خاصة أن قيادة "حماس" لم تستخلص الدرس الأساس من تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وهو: أن الحصانة العربية لأي حركة سياسية فلسطينية مهما علا شأنها تبقى مشروطة بأن تكون حركة مستقلة تماماً، وألا يطغى انتماؤها الأيديولوجي على انتمائها الوطني والقومي للقضية الفلسطينية، وألا تتدخل في الشؤون الداخلية للأقطار العربية .
وفي ظني أن هذا ما فشلت قيادة حركة "حماس" في إدراكه والتصرف على أساسه، خاصة بعد أن حكم "الإخوان" مصر لمدة عام ثم إطاحة سلطتهم على يد الموجة الثانية لثورة 25 يناير بسبب فقر سياستهم الاجتماعية وتغليبهم للأيديولوجي على الوطني والقومي، بل وارتباطاتهم المريبة بمخططات المشروع الغربي والأمريكي خصوصاً في الوطن العربي والمنطقة عموماً . ماذا يعني هذا الكلام؟
تواجه الحركة الوطنية الفلسطينية مأزقاً سياسياً عاماً يعلم الجميع أن المدخل الفعلي للخروج منه هو إنهاء انقسامها الداخلي كشرط لا بد منه لتوفير أول وأهم عوامل القوة الوطنية القادرة على مجابهة التصعيد السياسي والميداني غير المسبوق الذي تنتهجه حكومة المستوطنين "الإسرائيلية" بدعم أمريكي بلغ حدَّ التبني الرسمي العلني للمطالب الصهيونية وناظمها الأساس الاعتراف ب"إسرائيل" "دولة للشعب اليهودي على أرضه التاريخية" . هنا لئن كان هذا هو سبب مأزق فصائل المقاومة الفلسطينية كافة، فإن لحركة "حماس" علاوة على ذلك مأزقها الخاص النابع من أن قيادتها لم تستوعب، أو لا تريد أن تستوعب الحقائق التالية:
1- أن ما بنته الحركة من حصانة وشرعية عربية رسمية تراجع كثيراً، بل هو آخذ بالتلاشي تقريباً بعد ثبوت أن الحركة ما انفكت تتعامل مع نفسها كفرع لجماعة "الإخوان المسلمين" وتنظيمها الدولي، ما يشي بانكشاف حقيقة أنها ليست حركة فلسطينية مستقلة تملك إرادة عدم التدخل في الشؤون العربية الداخلية . هذا بينما أثبتت تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة أن ضمان استمرار الشرعية العربية الرسمية لأية حركة سياسية فلسطينية مشروط باستقلالها وعدم تدخلها في الشؤون العربية الداخلية .
2- أن دوائر التأييد الشعبي العربي للحركة قد بدأت بالتقلص، بل انتقلت أو تكاد إلى موقع العداء للحركة ارتباطاً بتصاعد حالة العزل الشعبي العربي لجماعة "الإخوان" . هذا بينما أكدت تجربة فصائل المقاومة الفلسطينية أن الدعم الشعبي العربي هو سياج حمايتها مما يمكن أن تتعرض له من عمليات بطش وقمع وملاحقة بالمعنى الشامل للكلمة في هذا القطر العربي أو ذاك .
3- أن مصر هي مركز إطلاق ما تواجهه الحركة من عزلة شعبية ورسمية عربية . هذا علماً أن مصر هي الدولة العربية المركزية، وأن وجهة مصر شاءت قيادة "حماس" أو أبت هي بوصلة وجهة غالبية الأقطار العربية، وأن مصر هي الرئة، بل أنبوبة الأكسجين التي يتنفس منها قطاع غزة المحاصر الذي تسيطر عليه حركة حماس . ما يعني: لئن كان من الصعوبة بمكان أن تتحمل "حماس" كحركة مقاومة تبعات الأزمة مع مصر، فإن من الوهم أن يكون بوسعها تحمُّل ذلك كحركة تتولى السلطة في قطاع غزة .
4- أن فرصة الاعتماد على "اقتصاد الأنفاق" في إدارة شؤون سكان قطاع غزة المحاصر في فترة ما قبل اندلاع موجة الإرهاب "الإسلاموي" الدموي في سيناء قد انتهت إلى غير رجعة بعد أن صارت شبكة الأنفاق تهدد الأمن القومي المصري، خاصة أن تصعيد هذه الموجة وامتدادها إلى باقي محافظات مصر قد أعقب إطاحة سلطة جماعة "الإخوان المسلمين" التي تجاهر "حماس" بأنها فرع من فروعها، بل تفتح أبواق فضائياتها للطعن في شرعية سلطة ما بعد الموجة الثانية لثورة 25 يناير وتصفها ب"الانقلاب العسكري" .
5- أن حركة "حماس" تتحمل مع حركة "فتح" مسؤولية حدوث الانقسام الداخلي الفلسطيني ومسؤولية عدم توافر الإرادة السياسية الجادة لإنهائه وطي صفحته السوداء التي دون أن تبادر "حماس" جدياً إلى طيها تبقى بلا طائل محاولة الحركة إقناع الناس بأن المس العربي الرسمي والشعبي بحصانتها المعنوية والسياسية يساوي المس بالمشروع الوطني للشعب الفلسطيني وحصانة مقاومته .
6- أن شرعية صناديق الاقتراع التي قادت الحركة إلى السلطة لم تعد قائمة . فالشرعية الدستورية ل"المجلس التشريعي الفلسطيني" الذي حصدت الحركة غالبية مقاعده في انتخابات عام 2006 انتهت مدته قبل أربع سنوات، ما يعني أن "سلطة" "حماس" في قطاع هي سلطة أمر واقع .
خلاصة القول: بوسع قيادة "حماس" مواصلة تجاهل حقيقة أن أزمتها مع مصر هي أزمة سياسية بامتياز، وأن المدخل الفعلي لمعالجتها هو أيضاً سياسي بامتياز، لكن هذا لن يفضي إلى إخراج الحركة ومعها قطاع غزة من المأزق الذي دخلته بفعل خياراتها الفاشلة والمدمرة في تغليب البعد الأيديولوجي "الإخواني" على البعدين الوطني والقومي للقضية الفلسطينية . ف "حماس" ليست الشعب الفلسطيني، وجماعة "الإخوان المسلمين" ليست شعب مصر مرآة الأمة ومعيار عافيتها . وسيطرة "حماس" على قطاع غزة تحولت في الواقع من ورقة قوة بيد الحركة إلى مأزق متعدد الأوجه والأبعاد . فهل يعيد القرار القضائي المصري بتداعياته بعيدة المدى قيادة "حماس" إلى جادة الصواب وإلى إعادة النظر في حساباتها الأيديولوجية الفاشلة المدمرة في آن؟!

الخليج

المصدر: 
الخليج