عودة اللاجئين "لا تُغرق" "إسرائيل"
تفكيك أطروحة الرئيس محمود عباس، تستحق العناء، والتدقيق في قصورها الذاتي وخلل بنيتها المعرفية، فضلاً عن أن السكوت حيالها، يجعلها مقولة رائجة رغم عدم استقامتها وطنياً وأخلاقياً وسياسياً وقانونياً ومشروعية .
في حديثه قبل أيام، أمام عدد من الطلبة "الإسرائيليين"، قال محمود عباس: "أنا لا أعمل على إغراق "إسرائيل" بملايين اللاجئين، لتغيير طبيعتها، الدعاية "الإسرائيلية" هي التي تقول ذلك، لم يحصل هذا الكلام إطلاقاً، كل الذي قلناه: تعالوا نضع ملف اللاجئين على الطاولة، ونحله بالتوافق بوساطة الحلول الخلاقة" . . انتهى النص .
ما معنى "لا نريد" إعادة خمسة ملايين لاجئ فلسطيني إلى ديارهم وبيوتهم وأملاكهم الخاصة؟ وهل صحيح أن إعادة هذه الملايين، ستتسبب بإغراق "إسرائيل"؟
لا نناقش هنا، مسألة حق العودة، وهو حق تاريخي وشرعي وقانوني ثابت، ولا يسقط بالتقادم، لأنه حق شخصي نابع من حرمة الملكية الخاصة للاجئ، وبالتالي هو حق غير قابل للتصرف، مثله مثل حقوق الإنسان، لا يخضع للتفاوض ولا للتنازل، ولا يسقط ولا يُعدل .
لا نناقش هنا، عودة اللاجئ، التي لا تتم إلا إلى نفس المكان والقرية والمدينة التي طرد منها أو غادرها لأي سبب، هو أو أبواه أو أجداده، ولا تعتبر عودة اللاجئ إلى مكان آخر في فلسطين أو الضفة الغربية هي عودة، ففي فلسطين ،1948 يوجد من الفلسطينيين المليون ونصف شخص، نحو ربع مليون لاجئ، يعيش بعضهم على بعد كيلومتر واحد من بيته الأصلي المحتل .
لا نستحضر هنا حق العودة المكفول بالقرار الأممي رقم ،194 ويشمل العودة والتعويض معاً، وهو القرار الذي أكد عليه المجتمع الدولي أكثر من 140 مرة حتى الآن، وأنشأ من أجل اللاجئين مؤسسة دولية لاغاثتهم (الأونروا)، وشكل (لجنة التوفيق الدولية) لتسهيل عودتهم، وإعادة تأهيلهم، وكذلك معاهدة جنيف الرابعة لعام ،1949 التي تقضي على أن أي اتفاق بين القوة المحتلة، والشعب المحتل أو ممثليه، باطل قانونياً إذا أسقط حقوق الشعب المحتل .
نكتفي بالقول، إن جذور الفلسطينيين في فلسطين، أقدم من جذور البريطانيين في بريطانيا، وأقدم كثيراً من جذور الأمريكيين في أمريكا، وإن "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة في تاريخ الأمم المتحدة، التي قُبلت عضويتها بشرطين، أحدهما قبول القرار ،194 الخاص بعودة اللاجئين .
السؤال المنطقي، بعيداً عن الحقوق والقانون والأخلاق، هو: هل فعلاً، ستغرق "إسرائيل"، لو عاد إليها، أي إلى فلسطين التي احتلتها في العام ،1948 ووسعت رقعة احتلالها في العام ،1949 الملايين الخمسة من اللاجئين؟
الإجابة، المدعومة بالدراسات والخرائط والأرقام، تقول لا، لن تغرق "إسرائيل" . . . وإليكم التفاصيل:
(1) 80 في المئة من يهود "إسرائيل"، يعيشون فقط في 15 في المئة من مساحة "إسرائيل" الحالية أما الباقون من اليهود (نسبة 20 في المئة) فيعيشون في مدن وقرى فلسطينية، من بينهم 2 في المئة يعيشون على أراضي اللاجئين، والتي تبلغ مساحتها نحو 85 في المئة من مساحة "إسرائيل" .
(2) إن أكثر من 90 في المئة من مواقع القرى الفلسطينية قد تم تدميرها، وما زالت خالية إلى اليوم، حيث إن معظم العمران "الإسرائيلي"، قد قام على الأراضي اليهودية، التي كان يملكها يهود عند نهاية الانتداب البريطاني، والتي لا تزيد مساحتها على 6 في المئة من مساحة فلسطين، إضافة إلى نحو 3 في المئة من مواقع القرى الفلسطينية، وبخاصة تلك القرى المحيطة بتل أبيب وغربي القدس .
(3) هناك نحو 530 مدينة وقرية فلسطينية، إضافة إلى أكثر من 600 قرية صغيرة تم احتلالها، ودمرت "إسرائيل" نحو 90 في المئة منها، وما زالت اطلال هذه القرى واضحة، وخالية تماماً من العمران حتى يومنا هذا .
(4) هناك نحو 30 في المئة من اللاجئين يعيشون في أراضي السلطة الفلسطينية، والباقي يعيش في المنافي والمخيمات في خارج فلسطين، ولهؤلاء الحق في العودة إلى بيوتهم وأملاكهم الخاصة .
(5) إن مشروع لمّ الشمل، الذي تتحدث عنه أوساط "إسرائيلية" وأمريكية، هو ليس حق العودة غير القابل للتصرف، وأية أخطاء في تشخيص مسألة عودة اللاجئين، هي خطايا كارثية، ومن دون حق العودة، تحصل "إسرائيل" على صك الملكية الخالصة لأرض فلسطين، مُوقّع عليه من أهلها وأمام شهود، ويعطي بالتالي شرعية لعملية التطهير العرقي للشعب الفلسطيني .
والخلاصة، إن العودة ممكنة، وعلى مراحل بدءاً من قرى الجليل وقرى الوسط والجنوب، وصولاً إلى مدن فلسطين الساحلية والداخلية، من دون أن تغرق "إسرائيل" - هذا إذا أرادت سلاماً دائماً وشاملاً- .
قد يقول قائل، إن "إسرائيل" اليوم، تعيش أفضل حال منذ إنشائها، حيث الدول العربية من حولها تتآكل، والجيوش مبعثرة أو غارقة في الدم والاحتراب الداخلي، والعزوف العربي عن القضية الفلسطينية سيطول، تحت وقع اضطراب المحيط والإقليم، ولا وجود لاستراتيجية تحرير فلسطينية، ولا حتى تكتيكات في الأفق، وتحولت السلطة الوطنية ومنظمة التحرير وحكام غزة إلى مجرد جهاز توظيف وامتصاص للإحباط العام، ولم يبق سوى الفراغ وانسداد الأفق، وغياب الرؤية الاستراتيجية، لكن كل ذلك لا يبرر إسقاط حق العودة .
المرحوم عرفات، أقام "دولة بلا أرض" في العام ،1988 وفي أوسلو انقلبت الآية، فصارت "أرض بلا دولة"، ويخشى إذا استمر هذا المسار أن نصل إلى "لا دولة ولا أرض" .
على الأقل . . ينبغي ألا يسقط حق العودة . . وهو حق ممكن "من دون إغراق "إسرائيل"" .
الخليج