من بيت جالا إلى حلب: القدامة السورية

بقلم: 

ضمن أنشطة الربيع الثقافي الفلسطيني، الذي احتضنته فرنسا سنة 1997 وكان نقلة نوعية وغير مسبوقة على الصعيد الأوروبي، سواء من حيث طبيعة الأنشطة، أم الأسماء المشاركة (فدوى طوقان، محمود درويش، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، سحر خليفة، أنطون شماس، ليانا بدر، غريب عسقلاني، زكي العيلة، رياض بيدس…)؛ تشرّفت بالمشاركة في تأليف كتاب جماعي، مع إلياس صنبر وجان ـ كلود بونسيه، نُشر بالفرنسية، حول التحدّيات الثقافية التي تواجهها فلسطين، راهناً وفي المستقبل. وقد تناولتُ عشر شخصيات فلسطينية، تبدأ من روحي الخالدي وتنتهي عند إدوارد سعيد؛ وكان في عدادهم (بالطبع، إذْ كيف أمكن أن يغيب!) الطبيب والأديب والباحث والمؤرّخ والأنثروبولوجي توفيق بشارة كنعان (1882 ـ 1964).

وإذْ أعود إليه اليوم، فلأنّ هذه السنة تدشّن الذكرى الخمسين لرحيله، وإلقاء تحية إجلال على ذكراه هي واجب الحدّ الأدنى؛ وكذلك لأنّ حياة هذا العلامة، وبعض أعماله، كانت لها صلات سورية وثيقة، الآن إذْ يطالب البعض بفكّ الارتباط بين فلسطينيي سوريا والسوريين؛ وكأنّ مخيّمات اليرموك في دمشق، والرمل الجنوبي في اللاذقية، والنيرب في حلب، والعائدين، في حمص… يمكن أن تبقى جزراً آمنة رغيدة، ناجية من وحشية النظام السوري.

وهذا رجل كان مسيحياً أرثوذكسياً، لبناني الأصول، لكنه ساجل بأنّ الفلسطيني ينتمي بقوّة إلى عمقه العربي والإسلامي، حتى حين يفاخر بنتاج جماع مركّب، لثقافات بابلية وعمورية وآرامية وكنعانية وفينيقية وفرعونية وعبرانية وهيللينية. وفي كتابه الهام ‘قضية عرب فلسطين’، الذي صدر أوّلاً بالإنكليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى سنة 1936، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفلسطينيون سريعاً، فولدت هويتهم وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية)، دون أن تخسر عناصرها التكوينية الأولى.

ولد كنعان في بيت جالا، البلدة الفلسطينية التي تتّسم بتعددية مسيحية ـ إسلامية مميّزة، ودرس في دار المعلمين بالقدس، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرج منها طبيباً عام 1905. هذا الطور الأول، في مراقبة المحيط الفلسطيني والعربي المجاور، أعقبه طور العمل الطبي الميداني الواسع، حتى عام 1947؛ حين عمل في مستشفيات فلسطين، وترأس دائرة الملاريا التابعة لمكتب الصحة العام، كما ترأس دائرة المختبرات الطبية العثمانية، التي يمتدّ نشاطها من بئر السبع في فلسطين إلى مدينة حلب شمال سوريا. وتابع أثناء ذلك تعميق معرفته الطبية، فدرس علم الجراثيم والأمراض الاستوائية وأمراض الدرن على يد أطباء ألمان، وكان اتقانه لستّ لغات قد أتاح له توسيع معارفه النظرية، وكتابة المقالات في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.

ولسوف تتكامل ملامح كنعان الأنثروبولوجي، بالمعنى الدقيق لفروع علم لم يكن قد دخل إلى العالم العربي بعد، لأسباب تاريخية وثقافية (ذات صلة بالقراءة الدينية لأصل الإنسان والتكوين)، واجتماعية (على رأسها أنّ العلم بدا عنصرياً وغربي التمركز في حديثه عن الأقوام البدائية وشعوب آسيا وأفريقيا). ففي فرع الأنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية، وضع كنعان كتباً في الطبّ المحض (مثل ‘حبّة حلب’، و’التهاب السحايا الدماغية والشوكية فيالقدس′، و’عدوى الجذام’)؛ وفي علم اجتماع الطبّ أيضاً (كتابه المدهش ‘الطبّ الشعبي في أرض الكتاب المقدس′، و’علم النبات في الخرافات الفلسطينية’، و’طاسات الرعبة العربية’)؛ وهي مؤلفات تدرس تاريخ العلاقة الوثيقة بين العلاج المادي عن طريق التداوي بالأعشاب، والعلاج النفسي عن طريق توظيف رموز الخرافة الشعبية وأساطيرها.

وفي فرع الأنثروبولوجيا الثقافية كتب كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة: النور والظلام، اللعنة، الطفل، ماء الحياة، رموز الطلاسم العربية، الينابيع المسكونة، الشياطين المائية… كذلك امتدت نشاطاته البحثية لتشمل الدراسات الجغرافية والأركيولوجية والمعمارية، فتناول طرق القوافل العربية الفلسطينية، وطبوغرافية منطقة البتراء، وعمارة البيت الفلسطيني التقليدي، والأنساق المعمارية للمزارات الإسلامية ودلالاتها الروحية.

ثمة، غنيّ عن القول، ذلك الجانب النضالي في شخصية كنعان: أنه اعتبر ‘الإمبريالية البريطانية’ شريكة مع ‘الصهيونية العالمية’ في الاستيلاء على فلسطين، فعمدت سلطات الإنتداب البريطانية، سنة 1939، إلى اعتقاله، مع زوجته وشقيقته، بالتهمة الكاذبة الرائجة آنذاك (الدعاية لألمانيا الهتلرية)، وزُجّ به في سجن عكا. ولم تكن مفارقة كبيرة أن يقتسم الطبيب والأنثروبولوجي والمؤرّخ المسيحي، التهمة ذاتها مع الحاج أمين الحسيني، المسلم والشيخ ومفتي القدس. وفي جانب آخر، يشير سليم تماري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بير زيت، إلى أنّ أنشطة كنعان الإثنوغرافية تبلورت ضمن سياقات فكرية ارتبطت بصعود النزعة القومية الفلسطينية، نتيجة تطوّرَين: هزيمة اللامركزية العثمانية، وتكوّن الهوية السورية العظمى.

وبعد ثلاثة عقود أعقبت ترحال كنعان في المحيط السوري، سوف يولد فلسطيني آخر اسمه محمود درويش؛ وسيكتب هكذا: ‘أنا ابن الساحل السوري/ أسكنه رحيلاً أو مقاما / بين أهل البحر/ لكنّ السراب يشدّني شرقاً/ إلى البدو القدامى’؛ أو يكتب هكذا: ‘وزنزانتي اتسعت شارعاً، شارعين. وهذا الصدى/ صدى، بارحاً سانحاً. سوف أخرج من حائطي/ كما يخرج الشبح الحرّ من نفسه سيّدا/ وأمشي إلى حلبٍ. يا حمامة طيري/ بروميّتي، واحملي لابن عمي/ سلام الندى’…

 

 

المصدر: 
القدس العربي