يهودية دولة إسرائيل وصدام الأديان
لم يتجاوز العالم بعد كافة العواقب الوخيمة التي أحدثتها نظرية أحد أهم المفكرين في تيار المحافظين الجدد، الأمريكي صموئيل هنتنغتون، حول صدام الحضارات، وما ترتب عن أفكاره من ضغينة وارتياب بين مختلف الدول والمجتمعات، حتى خرج علينا من جديد بنيامين نتنياهو بنظرية الدولة اليهودية.
بدون شك، مثل هذه النظريات تطل بمفاهيم مختلفة بين الحين والآخر لتزيد من مستوى الجفاء والنـــــزاع بين الدول والشعوب. كلا النظريتين هما امتداد لفكر متطرف ذي أبعاد تاريخية وجيو- سياسية غامضة المعالم. وكل واحدة على حدة تهدف أصلاً إلى فرض إرادة وإظهار قوة فئة ومعتقد ديني معين على باقي الفئات والأديان الاخرى. هذا النوع من الفكر مرفوض تماماً، خاصة من قبل كل من يتمنى لهذا العالم العيش بسلام، على أسس من التسامح والوئام.
في ما يتعلق بالمرجعية الفكرية للمحافظين الجدد، فهي تلك القيم الرأسمالية الأكثر انتهازية التي ليس لها صلة بالمسيحية السمحة، التي ترفض هذا السلوك لكونه يتناقض مع تعاليم التواضع والتكاتف التي تشكل نواة صلبة في عقيدتها، وإنما لها علاقة ارتباط بالنظرة العلوية المنبثقة عن التفوق الاقتصادي- السياسي الذي بلغه الغرب، بزعامة الولايات المتحدة، بعد انهيار القطب الشرقي. أما بالنسبة لفكرة الدولة اليهودية فتضرب بجذورها في الأيديولوجية الصهيونية المتعصبة التي ليس لها علاقة باليهودية المرنة التي نشأت بالشرق، والتي قدمت له من الغرب من خلال كتاب تيودور هرتزل ‘الدولة اليهودية’ المؤلف عام 1896، كرد فعل غاضب على ما وقع من ظلم على كل ما هو يهودي. هذا الغضب ظهر جلياً في الكتاب المسرحي ‘الغيتو’ الذي حاول هرتزل أن يعكس من خلاله وضع اليهود المزري داخل المجتمعات الغربية، ومقارنته بما كان يتمتع باقي أبناء ديانتهم بالشرق من حريات عامة وخاصة. بفضل ذلك كان يشعر هؤلاء بانتماء تام يماثل ذاك الانتماء الذي كان يشعر به المسلم والمسيحي من أبناء الوطن والقومية.
بعد جهد جبار تم تلاشي كثير من شظايا نظرية صدام الحضارات، من خلال برنامج عمل قائم على الحوار والالتقاء بدل الصراع. وقد لعبت دول مثل إسبانيا، السعودية، الفاتيكان والأمم المتحدة دوراُ ريادياً في تفعيل هذا البرنامج الهادف إلى تعزيز ثقافة الوفاق بين مختلف الشعوب والديانات. للأسف عكس ذلك لم يحصل بعد لمواجهة خطورة فكرة يهودية دولة إسرائيل، رغم ما تشكله هذه الفكرة من تهديد فعلي للسلم السياسي، الاجتماعي والديني المحلي والدولي. حقاً، وضع برنامج عمل شبيه بذاك أضحى أكثر من ضروري لتوضيح كافة الجوانب والنتائج السلبية التي يمكن أن تنبثق عن التمسك بهذه الفكره. عمل يظهر بأن تطبيقها يعني عرقلة كافة الجهود الجبارة التي تم إنجازها من أجل الدفع بعملية السلام نحو الامام، ما سوف يزيد بدورة من نمط الصراع العربي – الإسرائيلي في المستقبل القريب بدلاً من حله في القريب العاجل.
تشبث حكومة نتنياهو بمطلب الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل سوف يؤدي حتماً إلى ظهور فكرة مضادة أثقل وزناً، ألا وهي احياء مطلب إسلامية ومسيحية دولة فلسطين. هذا المطلب أكثر من واقعي، خاصة أنه قائم على حقائق تاريخية ودينية جلية لا يمكن اخفاؤها من قبل أي جانب. تعلم إسرائيل أن العرب والفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، يملكون حقا على هذه الأرض يفوق وجدانياً وروحانياً الحق اليهودي. عدم وجود تواز وتوازن في هذا الشأن يجعل من الأفضل على الدولة العبرية تجنب الولوج في متاهات دينية لا تحمد عقباها. لذلك يستحسن إسقاط فكرة يهودية الدولة من الأجندة السياسية نهائياً، والأخذ بالحسبان بأن مجرد التلويح أو التلميح بها لا يصب مستقبلا في صالح إسرائيل، بل سيفتح عليها لاحقاً، قبل غيرها، أبواب جهنم.
كافة المعطيات تؤكد أن وضع إسرائيل القائم هو الأمثل وأن تجاوز هذا الوضع، من خلال فكر ديني متعصب أو عمل عسكري متهور، سيجلب على شعبها عواقب وخيمة، خاصة حال تم حدوث اضطرابات أو تبلورت إرادة ما في تغيير موازين القوى. مثل ذلك، رغم صعوبة تحديد زمن وقوعه، الا أنه أمر أكثر من وارد. رغم علم الجميع بالواقع وبكافة الاحتمالات، فما زال هنالك من يتحاشى التحدث بهذه اللغة ويفضل الرد بعبارات فضفاضة تثير احياناً كثيراً من الريبة من جهة، والتمادي من جهة أخرى. ومثل ذلك خطأ أكثر من فاحش. حال عدم وجود بديل امام تعنت نتنياهو، على كل فلسطيني أن ينهل من إرثه التاريخي الإسلامي – المسيحي لدحض ودعم حقه في رفض فكره يهودية إسرائيل، والنصح بعدم اعطاء الصراع بعداً دينياً، تجنباً لتعقيد الأمور أكثر مما هي عليه.
من الأجدى مواجهة فكرة إسرائيل المتطرفة بالتنويه وطرح كافة الجوانب القائمة والمنبثقة عنها، بل والمزايدة عليها دينياً وسياسياً إن تمسكت هي بمطلبها، وتنبيه الجميع من نتائج الانجراف نحو هذا المنزلق الخطر. وتعريف دول العالم بأن مجرد التطرق لفكرة يهودية دولة إسرائيل يعني الدخول في متاهات عقائدية لا أول لها ولا آخر. حال تمسكت إسرائيل بهذه الفكرة فعلى الفلسطيني الالتزام أكثر وبحزم بكافة الثوابت الإسلامية-المسيحية الكامنة خلف مفهوم دولته، التي شريانها الحيوي والروحاني يبدأ بمدينة القدس وينتهي بمدينة الناصرة.
مثل هذا الواقع لا يمكن ولا يحق لأحد أن يتخلى عنه أو يغير من معالمه وحقيقه كونه ثابتا من الثوابت الوطنية. لا يمكن لأحد أن ينكر أو يلغي أو يتجاهل حق الشعب الفلسطيني العربي المسلم والمسيحي فوق أرضة المقدسة.
على كل فلسطيني أن يعمم رسالة سلام للعالم مفادها خطورة فكرة يهودية دولة إسرائيل على السلم الدولي. ورسمياً من المجدي تأسيس بعثة إسلامية -مسيحية مشتركة مشكلة من شخصيات معروفة بكفاءتها، مهامها شرح وتوعية كافة القوى السياسية والدينية العالمية – الفاتيكان، أساقفة الكنائس، الهيئات والمنظمات ذات الطابع الديني، السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي والعسكري- بخطورة فكرة يهودية دولة إسرائيل على العلاقات بين الشعوب والأديان. ذلك أفضل بكثير من حصر الحوار في هذا الشأن بين السلطة من جهة وحكومة نتنياهو وإدارة أوباما من جهة أخرى، أو من خلال إرسال راهب هنا أو هناك لإعطاء صورة ما عن فلسطين. يجب التنويه بأن فكرة إقامة دولة إسرائيل كلفت العالم الكثير من النزاعات، وبالتالي التأكيد على أن تكلفة فكرة يهودية هذه الدولة، حال تم وضعها في مواجهة مباشرة مع إسلامية ومسيحية دولة فلسطين، ستكون أعلى بكثير من السابقة. هذا الاحتمال وارد وحال سريانه سيساهم في زيادة وتيرة الصراعات الدينية والسياسية، المماثلة لتلك التي حدثت قديماً والتي عانى منها شعب إسرائيل أكثر من غيره.
التزمت اليهودي لن يولد سوى تشدد لدى الجانب الآخر، وهذا لا يمكن أن يكون في صالح أحد. هذه حقيقه يجب التركيز عليها وقولها بكل ثقة، بدون خشية أو ارتياب من عواقب إبرازها. غير ذلك لن يجدي نفعاً مع إسرائيل ومع من يدعمها. في بعض الأحيان من المستحسن صياغة خطاب مضاد متشدد يوازي ضعف الخطاب المقابل. معظم دول العالم تخشى من الأفكار الدينية المتعصبة لأنها تعلم نتائجها، لذلك تراها تمقت التعامل مع أي جهة تحاول أن تستغل بشكل تعسفي المعتقدات المنبثقة عنها، كما تفعل حالياً حكومة نتنياهو بوقاحة، بدون أدنى مسؤولية، رغم علمها قبل غيرها بأن ذلك سوف يؤدي إلى سرعة الانحدار نحو الفتن والصدام بين الشعوب والأديان. على دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة، المنظمات الدولية ووسائل الإعلام، أن تعي أن خلف فكرة يهودية دولة إسرائيل يختفي شبح مرعب. تشجيع هذه الفكرة في حد ذاته هو إيقاظ لهذا الشبح من سباته.