أنا مع الانقسام
لابد ان يكون المرء حكيماً حتى يبدو أنه مع المصالحة، ولابد ان يتصنع ويتظاهر بأن المصالحة خير للناس، لأن الجو السائد مع طول الانقسام واستمراره يؤكد أن هذا الانقسام أفضل من المصالحة، وإلا لماذا نصر عليه منذ قرابة السنوات السبع. ولماذا بقدرة قادر تتعطل كل جهود إنهائه لأسباب تضيع في زحمة النقاش والمواقف والتجاذبات؟ ولماذا نحن كمواطنين نتقبل عن طيب خاطر هذا الانقسام ولا نخرج عليه، ولا نصرخ في وجهه، وربما يفاجئنا مواطن صالح قريباً بأن يسمى طفله الجديد "انقسام". من يعرف. لهذا يجب ألا نقف في وجه الإنقسام، بل علينا أن نعمل على إطالة عمره، وتغذيته بكل الفيتامينات السياسية والاجتماعية التي تجعل بقائه أمراً محتوماً. أما أن نعبر عن موقف مضاد للإنقسام فهذا يقع في باب قلة الفهم وعدم الغيرة على المصلحة الوطنية وتعكير صفو العلاقات الوطنية و"الإضرار بالوحدة الثورية".
بل يمكن لنا أن نضيف الحفاظ على الانقسام لقائمة الثوابت الوطنية التي لن نتنازل عنها أبداً. وإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نطور شعارات وطنية تعبر عن هذا الانقسام وتمجده. لحسرتنا الباردة فلابد أن نجد مغنياً شعبياً ليقوم بغناء أغنية للإنقسام حتى تصبح أغنية وطنية يحفظها الصغير والكبير ونرددها في كل الأوقات والأزمان، وربما نذهب بها للأراب أيدول. من اجل ذلك علينا أن نعمل جاهدين من أجل الحفاظ على هذا الانقسام وتعزيزه وضمان عدم المساس به في المستقبل.
كل شيء تمام. ماذا نريد أكثر من ذلك! من الحقوق الوطنية إلى الاقتصاد إلى العلاقات الاجتماعية إلى صورتنا في الإعلام، كل شيء تمام. بل إن التجربة الفريدة التي نخوضها في ظل هذا الانقسام لابد أن تكون مثالاً تحتذي به الشعوب الأخرى. إذ أصبح الانقسام مكوناً أساسياً من مكونات نظامنا السياسي وجزءاً أصيلاً من خبراتنا السياسية، بل يمكن لنا أن نعلم الشعوب الأخرى كيف تصنع من الحبة قبة، وكيف تخلق المشاكل داخلها لأتفه الأسباب، وكيف يمكن لأي حزب أن يحمل السلاح ويستولي بالقوة على أي بقعة جغرافية في الوطن المسلوب أصلاً، حتى لو كانت دبابات الاحتلال وبوارجه وزناناته تعيش معنا في غرف النوم. المهم ان يحدث الانقسام.
الحمد لله! منذ الانقسام قبل قرابة سبع سنوات، حقوقنا الوطنية في أفضل حال، فنحن مازلنا نتمسك بكل شيء لم نفرط في شيء. صحيح أن إسرائيل قامت بحربين مدمرتين على غزة لكننا مازلنا نتنفس ومازالت قوانا متماسكة. فلا الحصار ولا إغلاق المعابر استطاع أن يفل من عزيمتنا. البوارج تملأ البحر. الزنانات تأكل السماء، الدبابات في كل ناحية حول السلك الشائك، لكن رغم ذلك غزة محررة. كما أننا صرنا شعبين بحكومتين وصارت المسافة التي لا تزيد على سبعين كيلومتراً بين الضفة الغربية وقطاع غزة سنوات ضوئية بفضل النعمة التي حبانا بها هذا الانقسام. اما في المفاوضات فإنه حتى لو رفض الرئيس أبو مازن مقترحات كيري، ووقف في وجه "إطاره"، فلا بد أيضاً ان نخرج بمظاهرات محتجين ضده حتى نثبت أننا منقسمون حتى لو كنا نتفق في الموقف ذاته.
الحمد لله! وضعنا الاقتصادي في أحسن حال. لقد وصلنا إلى مستويات في النمو الاقتصادي لم نصل إليها من قبل. فمعدلات البطالة انخفضت إلى ادنى مستوياتها، والطالب الجامعي يجد وظيفة وهو في السنة الرابعة من الجامعة، وبعضهم يتوظف في السنة الثالثة. والناتج القومي العام ومعدل الدخل وصلا إلى مستويات غير مسبوقة. بل إن ما فشلت فيه أوسلو في تحويل غزة إلى سنغافورة صار أمراً محققاً بفعل الانقسام. فكل شيء متوفر من العصير السعودي إلى المكسرات الإيرانية، ومن الثلاجات التركية إلى السيارات الكورية. الرخاء والازدهار يمكن لك أن تشمهما في كل مكان، فكل شيء ينمو ويكبر ويترعرع، والبلاد تعيش في نعيم واستقرار منقطعي النظير.
الحمد لله! علاقتنا الداخلية في أحسن صورها. فنحن شعب متماسك، متحاب، متكافل، ينطبق عليه حديث الرسول الكريم "إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى". همنا واحد وقلقنا واحد ونظراتنا مصوبة إلى الغاية ذاتها. بالطبع هذا التسامح وهذه المحبة تنعكس في مستوي الحريات المتوفرة في البلاد حيث الحرية مطلقة، فلا اعتقال سياسي ولا تكميم للأفواه ولا مصادرة لحق التعبير. بل إننا في شقي الوطن – ما رأيكم أن نقول في الوطنين بحكم أن ثمة واحداً في غزة وآخر في الضفة- أقول إننا في شقي الوطن ننعم بحرية منقطعة النظير ولا ينقصنا إلا أن نحمي أنفسنا من "شر حاسد إذا حسد".
الحمد لله أيضاً! فصورتنا في أبهى وأنقى حالاتها، فإعلامنا هادف وموجه نحو غايات سليمة، يخلو من الردح والسب والشتائم. وناطقونا الإعلاميين ملتزمون بمصلحة الوطن. حتى انظروا صفحات الفيس بوك والمواقع الاخبارية، وإذ أردتم أن تتأكدوا استمعوا لنشرات الاخبار على القنوات المحلية، ولكن بعد ان تتأكدوا أنكم أكلتم وشبعتم. حتى صورتنا في الخارج أجمل من ذلك بكثير. اما الربيع العربي فقد ملأ حديقتنا بالفواكه والثمار من كل الأصناف، حتى أن الناس خرجت في الشوارع العربية تهتف لفلسطين ناسية حريتها وقمع الديكتاتور.
ويمكن لنا أن نعدد آلاف الأمثلة التي تثبت لكل الاعداء المتربصين بهذا الانقسام ويريدون أن يحققوا المصالحة، أن المصلحة الوطنية تتمثل في الحفاظ عليه وفي إطالة عمره. حتى في ظل أسوأ السيناريوهات وفي ظل التفاؤل المفرط لدى البعض، بحسن نية او بسوء نية، فإن تحقيق المصالحة أمر عسير ومعقد. إن هؤلاء مثل الفقير الذي يحلم أن يصير مليونيراً بدل أن يحلم بساندوش فلافل أو شاورما من "العافية" على اكثر تقدير. وعليه فإن من الأفضل أن نتمسك بالإنقسام ونعلن تأييدنا له وربما إعلان يوم 14حزيران عيداً وطنياً لتخليد ذكراه.
الأيام