«حماس» وإنقاذ الهدنة مع إسرائيل

بقلم: 

بالنسبة للمسلح المقنّع الذي أردى شخصاً على جانب الحدود الإسرائيلية في قطاع غزة، فقد كان الهدف مشروعاً، بل كان مغرياً، فمباشرة بعدما تقدم العامل الإسرائيلي إلى جهة السياج الفاصل بين إسرائيل وغزة لإصلاحه، صدر الأمر بإطلاق النار عليه، ولكن الهجوم الذي تعرض له العامل في شهر ديسمبر الماضي وتسبب في مقتله على يد فصيل فلسطيني مسلح ينشط انطلاقاً من غزة، أدى إلى رد إسرائيلي بالدبابات والطائرات لم ينتهِ بقتل المسلح الذي أطلق النار، بل بمصرع طفلة وجرح ثلاثة آخرين.
ومع أن القتيلين اللذين سقطا في الهجومين الفلسطيني والإسرائيلي لم يتصدرا عناوين الأخبار إلا قليلاً، فقد أصبحت عمليات إطلاق النار المميتة جزءاً من الرسائل التي تتبادلها الفصائل الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية التي تريد إثبات أن مقاومتها لإسرائيل ما زالت مستمرة، وبين الجيش الإسرائيلي الذي لا يريد تفويت فرصة الرد على كل عملية فلسطينية بهجوم يوقع مدنيين.
ولكن وعلى رغم الموجهات الأخيرة، يظل اتفاق وقف إطلاق النار -رسمياً على الأقل- الذي يدخل شهره الرابع عشر بين «حماس» التي تسيطر على القطاع وإسرائيل، سارياً، وإن كانت الهدنة تتآكل يومياً في وقت تحاول فيه «حماس» كبح جماح الفصائل التي لا تدخل مباشرة تحت سيطرتها ولا تأتمر بأوامرها، لا سيما أن هذا النوع من التصعيد الذي تشهده العلاقة بين الطرفين أدى خلال السنوات الخمس الماضية إلى اندلاع حربين داميتين مع وجود شعور متنامٍ لدى المراقبين بأن حرباً أخرى قد تكون في الأفق.
ونذر هذه الحرب المحتملة جاءت واضحة على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي يعلون، الذي حذر مؤخراً من أنه «إذا لم تعرف حماس كيف تفرض سلطتها على المنظمات الإرهابية داخل قطاع غزة، فإنها ستدفع الثمن باهظاً». وبحسب معطيات الجيش الإسرائيلي، فقد ارتفعت وتيرة إطلاق الصواريخ من غزة نحو إسرائيل، حيث أُطلق 28 صاروخاً في شهر يناير المنصرم، والارتفاع نفسه أيضاً شهدته عمليات الاقتحام التي ينفذها الجيش الإسرائيلي. كما أن إسرائيل نفذت عمليتي اغتيال على الأقل ضد مسلحين من غزة خلال الشهر الماضي، ما أدى إلى مقتل شخصين وجرح آخر.
وبالنظر إلى ما تواجهه حركة «حماس» من عزلة ومصاعب اقتصادية، يصر قادتها على أنهم في حاجة إلى حماية الهدنة مع إسرائيل وإبقائها سارية، فقد أغلقت الحكومة الجديدة في مصر الأنفاق التي تهرب السلع إلى القطاع، وهو الأمر الذي نجم عنه قطع مورد الضرائب المهم بالنسبة لـ«حماس». وفيما تتولى الحركة مسؤولية إدارة المدارس ودفع رواتب موظفي البلدية، وتوفير الكهرباء، تظل الجماعات المسلحة الصغيرة في حِل من هذه المسؤوليات، حيث يبقى هدفها الأساسي هو محاربة إسرائيل وشن هجمات عليها، وهو بالضبط ما قام به المسلح الذي أطلق النار على العامل الإسرائيلي وهو ينتمي إلى لواء «الناصر صلاح الدين» التابع إلى لجان المقاومة الشعبية التي تعتبرها الولايات المتحدة منظمة إرهابية. وتعارض الجماعة المسلحة المفاوضات مع إسرائيل، والتعاون الأمني معها، وهي ليست سوى واحدة من مجموعات مسلحة عدة تنشط في غزة وتطلق الصواريخ على إسرائيل.
وبحسب «أبو سعيد»، المتحدث باسم لواء «الناصر صلاح الدين» الذي تحدث إلينا وهو مقنّع ورفض الكشف عن هويته، فقد سارع القناص الذي أطلق النار إلى موقعه بعدما رُصد العامل الإسرائيلي، ثم أطلق النار وأرداه قتيلاً، ولم يكن الضحية سوى «صالح شكري أبو لطيف»، البالغ من العمر 22 عاماً، وهو مسلم وبدوي ينحدر من قرية «رحات» داخل إسرائيل، حيث كان يعمل مع شركة متعاقدة مع الجيش الإسرائيلي لإصلاح السياج الفاصل بين إسرائيل وقطاع غزة. وعن موضوع مقتله، قال أحد أقربائه «لم يكن من السهل تقبل موته، نحن أسرة مسالمة ولا نلوم أحداً، نحن نؤمن بحل الدولتين وبأن على الفلسطينيين أن يحكموا أنفسهم داخل أرضهم، وأن يعيش الإسرائيليون بأمن وسلام». وعندما سئل المتحدث باسم الجماعة المسلحة عما إذا كان يشعر بأي ندم على قتل رجل مسلم، أجاب قائلاً «لا يهمنا من هو، لقد كان يعمل مع الجيش الإسرائيلي، وهذا يكفي».
ولكن مباشرة بعد سقوط العامل الإسرائيلي، أدرك الجميع في غزة أن الرد لن يتأخر فاشرأبت الأعناق إلى السماء، باحثة عن الطائرات الإسرائيلية، وهو ما عبر عنه متحدث باسم الجناح المسلح لحركة «الجهاد الإسلامي» بالقطاع دون التعريف عن نفسه، قائلاً «ثمة شيء كبير على وشك الحدوث».
ولا يخفي الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي تخوفهما من تصاعد الهجمات المتبادلة، فالجانبان خاضا حرباً استمرت ثمانية أيام أواخر عام 2012 وصلت فيها الصواريخ الفلسطينية إلى مشارف تل أبيب، فيما شنت إسرائيل حملة جوية قاسية على القطاع، حيث انتهت المعارك بمقتل 174 فلسطينياً، أكثر من نصفهم مدنيون، فيما سقط ستة إسرائيليين، أربعة منهم مدنيون. ووفقاً لأرقام وزارة الخارجية الأميركية، فقد أطلق ما لا يقل عن 52 صاروخاً من قطاع غزة منذ التوقيع على اتفاقية الهدنة.
ومع أن المسؤولين الإسرائيليين يعترفون بأن «حماس» ليست هي مصدر الصواريخ، إلا أنهم يحملونها المسؤولية لأنها تسيطر على القطاع منذ عام 2006، ولذا ففي مساء اليوم الذي سقط فيه العامل الإسرائيلي، ردت الطائرات والدبابات الإسرائيلية بعنف، ومن بين الأهداف التي ضُربت حسب الرواية الإسرائيلية «موقع تابع للإرهاب». ولكن الموقع لم يكن سوى بيت الطفلة «هلا أبو شيخة» التي تبلغ عامين، حيث كانت تلعب في حديقة المنزل عندما أصابتها شظية من قذيفة مدفعية أودت بحياتها. ولدى سؤالنا لأحد أقربائها عما إذا كان البيت يستغل لأغراض عسكرية، أكد أنه بيت لعائلة ولا دخل له في الصراع مع إسرائيل.
وفي دفاعها عن نفسها، قالت «حماس» على لسان باسم نعيم، مستشار رئيس حكومة غزة المقالة، إسماعيل هنية: «يعرف الإسرائيليون جيداً أن حماس تبذل قصارى جهدها للحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار، لدينا مئات رجال الشرطة الذين يراقبون الوضع ويمنعون إطلاق الصواريخ»، إلا أن القيادي البارز في حركة «حماس»، محمود الزهار، بدا أكثر وضوحاً بقوله: «تدرك إسرائيل أن حماس تسيطر على الوضع في غزة، وتعرف جيداً أن البديل لحماس سيكون الفوضى مع قدوم المتطرفين من كل مكان لتصبح غزة شبيهة بسيناء، أو بسوريا جديدة».