احكيها_فلسطيني: هالسيارة مش عم تمشي..
في هذه اللحظة تماماً، في ساحةٍ عند أوّل شارع الخوري في حيفا، رجل ممدد تحت سيّارة يحاول عبثاً تغيير قطعة ما لإصلاح المركبة. حولها طفلان صغيران، يحملان ويعبثان بأدوات العمل وينثران البراغي في الهواء. تطل الآن امرأة من النافذة وتصرخ بالأطفال وتهددهم بأنهم لن يتمكنوا من السفر إلى جبل الشيخ غداً، لمشاهدة الثلج، إن لم يدَعوا والدهم يصلح السيّارة بهدوء. وكان الأب الممدّد، كلما غضب وأراد أن يركل طفلاً، يضرب ركبته بحديد المركبة فيصرخ ويشتم ويتوعّد أولاده.
هذه الجلبة في الحيّ تُشبه الجلبة في مدينة الـ"فايسبوك" غير الفاضلة، "لو فلسطين مش محتلّة"، "احكيها فلسطيني"، "لو لم تحدث النكبة"، وغيرها الكثير من الحملات التي أحدثت ضجيجاً أكثر ما يميّزه أنّه عاديّ، فيه اللطيف وفيه المضحك وفيه المحزن وفي السمج. لكن المستفز في هذا العاديّ أن يتحوّل لسببٍ ما إلى شأن نضالي وسياسي. أمور عاديّة تُحمّل ثقلاً سياسياً لا تحتمله، وفي الوقت ذاته تُحمّل السياسة ثقلاً لا شأن لها فيه: ثقل الدم.
بين الأطفال الذين يعبثون، والأم الغاضبة والأب الذي لا يعرف كيف يصلح المركبة بغض النظر عن الجلبة، هناك سيارة واحدة معطوبة لا تتحرّك إلى أي مكان. وحدها المركبة التي تعمل، هي القادرة على أن تحمل أفراد العائلة إلى رحلةٍ تقرّب بينهم، أما الواقفة فليست أكثر من موضع خلاف. وفي معمعات الـ"فايسبوك" بين المزعوج والمُزعج، مركبةٌ معطوبة اسمها العمل من أجل فلسطين.
"الحملة" كانت في أزمنةٍ غابرة حرباً على العدو، وفي أزمنةٍ لاحقة أصبحت الحملة تعني تنزيلات المجمّعات التجاريّة، أما نحن، فوجدنا توليفة في الوسط: الحملة هي فعاليّة ما تبدأ وتنتهي في استخدام أجوف للإعلان وتقنيّاته المغرية، فتُقنع المشتركين بها أنهم يشنّون بذلك حرباً على العدو.
واحدة من الحملات سُمّيت "احكيها فلسطيني". في تعريف الحملة جاء التالي: "#احكيها_فلسطيني هي مبادرة قامت عليها مؤسسة الرؤيا الفلسطينية ومؤسسة الجذور الشعبية المقدسية، بتوجيه وإشراف "حملة المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي"، ضمن الدورة التدريبية #إعلام_جديد في القدس المحتلة". عندنا إذاً ثلاث مؤسسات، بطولها وعرضها، مشغولة بصفحة "فايسبوك"، لماذا؟ "لرفع الوعي إزاء المصطلحات العربية المغلوطة في وصف أو التعبير عن مكان، حدث، الفلسطينيين/ات، الخ.. بما في هذا الاستخدام من "خطأ" يؤثر على بلورة الهُوية الفلسطينية وكذلك على الوعي السياسي تجاه القضية الفلسطينية".
هناك جنيّة شقراء (شقراء قصداً) حلّقت إلى بيت العائلة في شارع الخوري وباحت للأطفال أثناء نومهم بأن الوعي، المصطلحات والهويّة، هي أمور يمكن أن تغيّرها عند الناس بمجرّد أن تقول لهم: "أنتم مخطئون، تعلّموا منّي...". هناك جنيّة شقراء أقنعتهم بأن أموراً مثل الوعي لا علاقة لها بما يحدث على الأرض، لا علاقة لها بواقع سياسي واقتصادي واجتماعي، يمكنها أن تتغيّر هكذا وحدها، من دون أن تتغيّر علاقات القوّة، لمصلحة حركة سياسيّة ضاربة، في الشارع الفلسطيني.
"رفع الوعي" مطلب مسطّح (جربوا استخدام هذه الكلمة بدلاً من "سطحي"، فهي تحمل المعنى ذاته وتستفز الناس أقل) ويفترض أصحاب المطلب أنهم يمتلكون الوعي اللازم ليرفعوا وعي غيرهم. فالوعي عندهم لا يأتي من العمل السياسي ولا ينتقل بالعمل السياسي، بل بالموعظة.
هذه ليست مشكلة "فايسبوك"، هذه مشكلة فلسطين. إن الجميع يعمل بالتوعية، وبما يُسمى الثقافة، حتى أصبحت الثقافة مرادفاً لابتذال التراث السياسي، وابتذال الوجع، وابتذال الخيال، وتحوّل الابتذال إلى فعل يتقاضى البعض راتباً مقابله وتقدّمه المؤسسات على أنه مشاريع.
هناك من يقاتل دفاعاً عن حملة مثل "لو فلسطين مش محتلة"، بادعاء غريب يسمّونه "الحقّ في الخيال". نسمع هذا الدفاع من أكثر من شخص. لكن مَن يقرأ مطولاً ما نُشر تحت هذه الحملة، يجد عاملاً واحداً مشتركاً: أيّ منها لا يمكن أن يتخيّل حياتنا من دون احتلال. كل ما كُتب هو نفي لما هو موجود، ومن النادر أن نجد من يكتب فعلاً من نقطة انطلاق أنه لم يكن هناك احتلال. رزان كتبت: "كان ما مات جدّي لاجئ بلا م يشوف ستّي"، سلام كتبت: "كان ما في حواجز"، روان: "كان تجوّزت الشب الي بحبّه ومصارش نصيب لأنه هويّة ضفّة". هذه كلها ليست خيالات، هذا نفي للاحتلال، والنفي تذكّر، وإن كان الفلسطيني بحاجة ليتذكّر أنه تحت احتلال، فلا حياة لمن تنادي.
المزحة تجاوزت تسلية الـ"فايسبوك" وأصبحت أيضاً فيديو قصيراً يلتقي فلسطينيين في الشارع ويسألهم: "لو فلسطين مش محتلة؟". في مشهد عبثي تجيب امرأة مسنّة: "لو فلسطين مش محتلة كنّا منروح ع تل أبيب...". هذه السيّدة المسنّة هي ذاتها الأم التي تقف عند النافذة تنهر الأطفال، وهي مقتنعة أن زوجها الذي لم يفلح في حياته بإصلاح أي شيء، سيصلح السيّارة، وأنه سيأخذهم إلى جبل الشيخ رغم أنه في حياته لم يف بوعده أن يفسّحهم خارج المدينة. من يضعوا اللوم كلّه على الأطفال العابثين، يخطئوا الخطيئة ذاتها، أنهم يلومون الأطفال بدلاً من لوم الأبّ الممدد: مؤسسات ومثقفين وتنظيمات سياسية في فلك السلطة. جميعهم يحلمون برحلة، والأب منبطح، تحت سيّارة أو فوق طاولة مفاوضات، والجميع غاب عن باله أن الثلج سيذوب، وجبل الشيخ سيبقى تحت احتلال.