«القنبلة الديموغرافية»... و«يهودية الدولة»
هناك ثوابت جوهرية يرتكز عليها الإجماع القومي الصهيوني تتمحور في إجماع على كون إسرائيل دولة يهودية. ولا خلاف في ذلك بين اليمين واليسار، إلا فيما يتعلق بطابعه «اليهودي ــ اليهودي» أو «اليهودي ــ الديمقراطي»، علما بأن إسرائيل، كما يتأكد يومياً، كيان عنصري التركيب والتكوين. ولطالما عبر المسؤولون الصهاينة عن تخوفهم من «القنبلة الديموغرافية» التي يمثلها العدد المتزايد لفلسطينيي 48 (وكذلك في الضفة الغربية وقطاع غزة). وقد أكدت مجموعة من الدراسات والإحصائيات السكانية والاجتماعية صدرت في إسرائيل، أن العامل الديموغرافي مفترض له أن يكون أحد أهم العوامل في موضوع «يهودية الدولة». وفعلا، سلّط خبراء ومحللون الأضواء على الهاجس الديموغرافي الذي يشغل الصهيونية وإسرائيل منذ عشرات السنين. لذا، لم يكن من المستغرب تصريح وزير الخارجية الأميركي الذي قال فيه: «الديناميات الديموغرافية في إسرائيل شكلت تهديداً وجودياً... يجعل من المستحيل على إسرائيل أن تحافظ على مستقبلها كدولة ديمقراطية يهودية». وقد سبقت ذلك، تخوفات كل من زعيم المعارضة الإسرائيلي (إسحق هيرتزوغ) والعضو الرفيع في مجلس الوزراء (يائير لابيد) من أن الاتجاهات الديموغرافية سوف تحول إسرائيل إلى «دولة ثنائية القومية». وفي معظم المواقف التي يتم فيها ذكر عامل السكان، يُذكر كسبب عاجل لحل الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي.
وفي وعد بلفور عام 1917، وعدت بريطانيا بوطن قومي للشعب اليهودي، وليس بدولة يهودية. وفي عام 1948، جاء اعتراف الرئيس الأميركي هاري ترومان بقيام دولة إسرائيل بعد إقرار قيادة الوكالة اليهودية «ممثلة لحكومة إسرائيل»، بقيام الدولة الفلسطينية من دون شروط. وطبقاً للوثيقة الرسمية للاعتراف، والتي قدمت إلى ترومان ليوقعها، والتي وصفت إسرائيل بالدولة اليهودية الجديدة، فإن ترومان شطب هذه العبارة بخط يده، وكتب بدلا منها عبارة «دولة إسرائيل الجديدة». وكان هذا أول اعتراف من أية دولة في العالم بإسرائيل، ما يؤكد أن العالم لم يعترف يوماً بيهودية إسرائيل.
وعربياً، لم ترد أية إشارة تعتبر إسرائيل دولة يهودية، سواء في اتفاق السلام المصري ــ الإسرائيلي عام 1979، أو اتفاق السلام الأردني ــ الإسرائيلي عام 1994. كذلك، رسائل الاعتراف المتبادل بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق اسحق رابين، والتي سبقت اتفاقات أوسلو. أي أن كل الوثائق الدولية التي تعتبرها إسرائيل أساس شرعية وجودها، لا تعترف بيهودية الدولة. بل ومنذ عشر سنوات ألغيت خانة الديانة في إسرائيل (يهودي، مسلم، مسيحي، درزي)، وأصبحت كلمة الجنسية تملأ بكلمة واحدة للجميع «إسرائيلي».
في مقال نشرته «فورين بوليسي» للباحث المشارك في برنامج الشرق الأوسط في مجال العلاقات الخارجية، «يوري سادوت»، بعنوان «قنبلة إسرائيل الديموغرافية الموقوتة ليس لها فتيل»، كتب يقول: «إذا استمعت إلى بعض كبار المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، فستتشكل لديك القناعة بأن «قنبلة إسرائيل الديموغرافية الموقوتة تدق، وأنها مهيأة للانفجار في أي يوم الآن». ويضيف سادوت: «مخطط برافر القاضي بتهجير عشرات آلاف الفلسطينيين من مناطقهم في النقب، له علاقة بمسألة تهويد الدولة وليس بالقنبلة الديموغرافية». ويضيف: «كذلك، وفي مناسبة الحديث حول اتفاق نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين في موازاة جولة المفاوضات الحالية بين الجانبين، طرحت مرة أخرى -لتكريس يهودية الدولة - فكرة نقل مناطق من المثلث العربي في إسرائيل إلى سيادة الدولة الفلسطينية المفترض أنها قادمة». ووفقاً لصحيفة «معاريف»، قدمت الحكومة الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة اقتراحاً يقضي بتسليم الفلسطينيين - في إطار اتفاق تبادل أراض - جزءاً من منطقة المثلث يسكن فيه نحو 003 ألف مواطن عربي، في مقابل ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية إلى إسرائيل. ونقلت الصحيفة عن مصدر سياسي إسرائيلي رفيع، ضالع في الاتصالات بين إسرائيل والولايات المتحدة، أن «اقتراحاً كهذا من شأنه أن يحلّ قضية تبادل الأراضي، وفي الوقت عينه أن يساهم في الحفاظ على التجانس الإثني لإسرائيل، أي الحفاظ على طابعها اليهودي عبر التخلص من 003 ألف عربي»!
إعادة طرح تلك الأفكار يثبت أنه ما من موضوع حالياً (عدا حق العودة للاجئين الفلسطينيين) يتوافق حوله «إجماع قومي ووطني إسرائيلي» أكثر من موضوع المحافظة على «الطابع اليهودي الصهيوني» لدولة إسرائيل. وأن أمل إسرائيل الوحيد للحفاظ على هويتها، كما يقول أنصار نظرية «القنبلة الديموغرافية الموقوتة» هو إبرام صفقة سلام سريعاً مع الفلسطينيين، والتي تعبد الطريق لقيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن القبول بمصطلح ومطلب «يهودية إسرائيل» يعني التنازل عملياً عن «حق العودة» بشهادة فلسطينية عربية، ومنع عودة اللاجئين إلى وطنهم المحتل عام 1948، كي لا تؤثر عودتهم على الديموغرافية الإسرائيلية وطابع «الدولة اليهودي». وهذا المطلب يتضمن أيضاً توجه إسرائيل نحو طرد فلسطينيي 48 من وطنهم بزعم الحفاظ على نقاء «الدولة اليهودية». كما يخدم محاولة جذب مزيد من يهود العالم إلى إسرائيل. فالحركة الصهيونية وإسرائيل تعتبران اليهود، في جهات الأرض الأربع، بمثابة المادة البشرية لتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية، وركيزة لاستمرار المشروع الصهيوني برمته في المنطقة العربية. هنا نستذكر أطروحات واستخلاصات «ابراهام بورغ»، الرئيس الأسبق لكل من الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) و«الوكالة اليهودية»، الذي طالب بإلغاء «قانون العودة» (لليهود في العالم)، وإلغاء تعريف إسرائيل كدولة يهودية، بالإضافة إلى حصول الإسرائيلي على جواز سفر أجنبي. وهو القائل: «تعريف إسرائيل، على أنها دولة يهودية وأنها بداية الخلاص، أمر قابل للانفجار.. وقضية الدولة اليهودية لم يعد مقبولة. فتعريف إسرائيل على أنها دولة يهودية سيكون المفتاح لنهايتها، دولة يهودية تعني أنها متفجرة.. أما الحديث عن الدولة اليهودية الديمقراطية، فذلك جميل ويساري ونوستالجي... إذ هو يمنح الإحساس بالاكتفاء. لكن الدولة اليهودية الديمقراطية هي نيتروجليتسيرين (أحد مكونات الديناميت سريع الاشتعال) القادر على إضرام النار في المشروع الصهيوني».
إن التركيز على يهودية الدولة، بغض النظر عن التطبيق والممارسة الدينية، يشكل ذريعة شيطانية لأهداف كثيرة منها تبرير العنصرية بحجة المحافظة على نقاء «الدولة اليهودية». وما شعار مطلب «الدولة اليهودية» سوى مطلب ذرائعي عنصري يرمي إلى نفي كل من هو غير يهودي من داخل إسرائيل، مع طمس معالم كل الحقوق الشرعية للفلسطينيين. فمعه لا وجود لحق العودة، ولا لحق التعويض، ولا لحق استعادة الأرض والبيوت والممتلكات المنهوبة.