وصفة سيئة للسلام

بقلم: 

خلال الأسابيع القليلة الماضية، ذهبت الصحافة الأميركية والإسرائيلية، المنبهرة بزيارات وزير الخارجية الأميركي جون كيري المتكررة إلى الشرق الأوسط، إلى أن عملية السلام قد بُعثت من جديد، مستندين في ذلك إلى الإعلان الذي يفيد بأن كيري يستعد ليرفع إلى طرفي النزاع الإطار الأميركي الخاص لاتفاق سلام بين الجانبين. وتكهن المراقبون بأن الإطار الذي يقترحه كيري سيقوم على مبدأ التعويض: أي أنه مقابل اعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية، وموافقة فلسطينية على التدابير الأمنية الإسرائيلية التي تنتهك السيادة الفلسطينية في الدولة الفلسطينية المقبلة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) مستعد، على ما يقال، لقبول المطالب الفلسطينية بخصوص اتفاق يقوم على حدود 1967.

 

غير أنه قيل أيضاً إن المفاوضين الفلسطينيين شددوا على أن المطالب الإسرائيلية غير مقبولة. وقيل كذلك: إن كيري منحاز إلى المطلبين الإسرائيليين: التدابير الأمنية الإسرائيلية التي تنتهك السيادة الفلسطينية، والاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية؛ وهو ما يطعن في مصداقية دور «الوسيط النزيه» الذي يُفترض أن تطلع به واشنطن في الشرق الأوسط.

والواقع أن تأييد كيري للمطلب الإسرائيلي الأول ليس مفاجئاً، وذلك على اعتبار أن أمن إسرائيل يُعتبر أحد الأولويات الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. ذلك أن حماية أمن إسرائيل تُفهم بشكل واسع في الولايات المتحدة، وتعكس سياسة لا تقوم على الدفاع السلبي، وإنما على ضربة استباقية تمثل فيها القوة النووية الإسرائيلية سياسة ردع فعال. وفي هذا السياق، عادة ما يقال: إن ما يحرِّك الدعم الأميركي لأمن إسرائيل هو الالتزام بالحفاظ على ميزان القوة، وهو ما يُقصد به في لغة العلوم السياسية، المساعدة على الحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري وهيمنتها بشكل عام في المنطقة.

 

بيد أن المفاجئ هو الدعم الأميركي الواضح لمطالبة نتنياهو باعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية؛ والحال أن حتى شمعون بيريز، الرئيس الإسرائيلي، يعتقد أن هذا المطلب «غير ضروري»؛ كما يرى منتقدون آخرون أنه مناورة هدفها الحكم على المفاوضات بالفشل وتحميل الفلسطينيين مسؤولية ذلك. صحيح أنه يصعب إثبات ذلك، غير أنه ليس من قبيل الخيال بالنظر إلى ما نعرفه عن مقاربة نتنياهو الميكيافيلية للسياسة.

 

وأياً تكن دوافع نتنياهو، إلا أن مطلبه يظل مثيراً للاستفهام. وهنا لابد من الإشارة إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت بحق دولة إسرائيل في الوجود عام 1993، وهو ما ساعد على التوصل إلى اتفاقات أوسلو للسلام. حينها، لم تكن ثمة أي مطالبة من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، كما أنه لا النرويجيين الذين رعوا اتفاق أوسلو، ولا الأميركيين الذين استضافوا التوقيع في واشنطن، أثاروا موضوع يهودية إسرائيل.

 

ويعلل الفلسطينيون رفضهم لهذا المطلب بالقول إن ذلك يرقى إلى اعتراف ضمني بمواطنة من الدرجة الثانية بالنسبة للعرب الذين يعيشون داخل الخط الأخضر؛ كما أنه يمثل تخلياً عن الحق الثابت في العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين الذين طُردوا من بلدهم خلال حرب 1947- 1949.

 

وعلاوة على ذلك، فإن اعترافاً فلسطينياً بإسرائيل كدولة يهودية يرقى إلى اعتراف بالطابع التمييزي للقانون التأسيسي لإسرائيل: «قانون العودة»، الذي يمنح اليهود من أي مكان في العالم حقوق مواطنة وحقوقاً سياسية بشكل أوتوماتيكي بصرف النظر عن مكان ولادتهم وجنسيتهم؛ في حين يُحرم من هذه الامتيازات العرب الفلسطينيون حتى وإن كانوا مولودين في فلسطين، وذلك لأن إسرائيل ليست بلد مواطنيها، وإنما هي بلد «الشعب اليهودي» فقط، وهو مفهوم يساوي بوضوح بين الدين والعرق! ويتعزز مفهوم «الشعب اليهودي» بمطالبة عدد من المنظمات الصهيونية (مثل المنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، والصندوق الوطني اليهودي) بوضع القانون العام الدولي في الوقت نفسه الذي تكرس فيه هذه المنظمات نفسها لبناء بلد واحد (هو إسرائيل)، والعمل على تطوره، وتشجيع الهجرة إليه، وكل ذلك على أساس الدين.. وهي ممارسة تمييزية واضحة تتعارض مع مقتضيات القانون الدولي وأحكامه.

 

لذلك، يتعين على كيري أن يكون حذراً ولا يجازف بتقديم الدعم السياسي لمفهوم «الشعب اليهودي» الإسرائيلي الصهيوني القائم على الدين، وكذلك حتى لا يتناقض مع موقف بلده. ذلك أن موقف وزارة الخارجية الأميركية واضح في رسالة بتاريخ 20 أبريل 1964 وُجهت إلى الحاخام إيلمر برجر، نائب الرئيس التنفيذي للمجلس الأميركي لليهودية، حيث تقول الرسالة: «إن وزارة الخارجية الأميركية لا تعترف بعلاقة سياسية قانونية تقوم على التحديد الديني للمواطنين الأميركيين... وإن وزارة الخارجية الأميركية لا تعتبر مفهوم الشعب اليهودي كمفهوم من القانون الدولي».

 

وفضلا عن ذلك، فقد حكمت محكمة أميركية، في دعوى قضائية في نيويورك عام 1999، ضد تسجيل منظمة تابعة لـ«الصندوق الوطني اليهودي» باعتبارها منظمة ذات نفع عام، وذلك رغم مجادلة «الصندوق» أمام المحكمة في مقاطعة ناسو بأن المنظمة التابعة له مؤهلة للتمتع بتلك الصفة لأنها تعمل في المجال الاجتماعي. لكن المدعي العام في ناسو رفض ذلك قائلا: «إن الصندوق الوطني اليهودي يمثل ذراعاً سياسية وتمييزية وعنصرية لدولة إسرائيل...».

 

وخلاصة القول إنه حتى يكون السلام في المنطقة سلاماً بين الشعوب وليس اتفاقيات بين الحكومات، علينا أن ندعم مقاربة تصالحية تشمل الجميع. أما المقاربة التي يتم الترويج لها حالياً، فتقوم على الخوف والإقصاء، وهي وصفة سيئة لسلام عادل ودائم في المنطقة.

 

المصدر: 
الاتحاد