"المفاوضات" الفلسطينية ـ الإسرائيلية: جذر المشكلة

بقلم: 

 

لطالما كانت سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وبالذات ما يخص إسرائيل، أحد أهم العوامل الحاكمة لمجريات الأحداث. بل إن تحليل التوجهات الأميركية تجاه الشرق الأوسط أضحى محوراً رئيسياً للعديد من الدراسات الرصينة التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، و"القضية الفلسطينية". وفيما يرى بعضهم أن السياسة الأميركية تجاه "القضية" تتسم بالثبات وتحكمها مصالح ثابتة لا تتغير بتغير القيادة السياسية، يبرز بعضهم الآخر أهمية متغير القيادة في تحليل السياسة الأميركية. ومعروف أن الولايات المتحدة، منذ الرئيس (جورج بوش) الابن، باتت تتبنى "حل الدولتين" كركيزة للتسوية السلمية، مع اشتراط التزام الدولة الفلسطينية بالسلمية ومحاربة "الإرهاب" بالمعنى الإسرائيلي المعروف، مع التأكيد على أهمية ومحورية أمن إسرائيل كأساس للتسوية السلمية وبناء الدولة الفلسطينية، من دون أن يتم ذلك من خلال الضغط على الدولة الصهيونية لتقديم تنازلات بحق مصالحها وأمنها بالذات. وفي ظل الظروف التي تعيشها المنطقة، لعل "مشكلة المشاكل" تكمن بقبول القيادة الفلسطينية الإملاء الإسرائيلي برفض التعاطي مع أي طرف دولي، سوى الولايات المتحدة، منذ نهاية الثمانينات. ومن واقع المواقف والأحداث، لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة متحررة من ضغوط "اللوبي الصهيوني" أساساً، فهي غالباً مضطرة لاتخاذ الموقف المؤيد لإسرائيل، والمستخدم لأسلوب التهدئة مع الفلسطينيين، رغم وعيها بإن إطالة الوقت تصب في طاحونة المشروع الإسرائيلي في المنطقة. وتحت التأثيرات الإسرائيلية - الصهيونية ذاتها تأتي العاطفة الجياشة في الأحاديث والمواقف الأميركية تجاه إسرائيل، مع تجاهل كبير للمأساة الفلسطينية: أرضاً وشعباً وتاريخاً. 
حالياً، يتزايد الرهان على فشل المفاوضات الجارية. فالحديث عن "اتفاق سلام" مع الإسرائيليين لا يبدو وارداً، لأن الإسرائيليين "فرضوا" نسبياً وجهة نظرهم على الأميركيين. وقد تجلى الأمر أخيراً، خلافاً لما التزمت به الإدارة الأميركية، شفهياً، للجانب الفلسطيني داخل الغرف المغلقة، حينما كشفت تلك الإدارة عن حقيقة موقفها إزاء بلورة متذاكية لخطة إسرائيلية صرف، أعيد تدويرها بإطار أميركي، وبطلها وزير الخارجية (جون كيري)، تتبنى بشكل واسع مطالب حكومة الاحتلال الإسرائيلي إرضاء لها بحجة تبديد هواجسها الغاضبة بعد توقيع اتفاق جنيف بشأن البرنامج النووي الإيراني، ودائماً من دون اهتمام جدي بتبديد مخاوف دول "مجلس التعاون الخليجي"!.
لقد تبين أن الإدارة الأميركية لا تملك قدرة على حل الصراع على أساس قرارات الأمم المتحدة التي تتسم بالوسطية. فقد أكد (كيري) في المؤتمر الصحافي المشترك، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)، "تجديد التزام الولايات المتحدة المطلق بأمن إسرائيل (اليهودية)"، الذي يقع على رأس سلم أولويات البيت الأبيض. من جهته، يعيد (نتنياهو) على مسامعنا شروطه التعجيزية رهناً باعتراف الجانب الفلسطيني "بيهودية الدولة والتخلي عن حق العودة"، فضلاً عن سياسة الاستعمار - "الاستيطان" التي تهدد بضم أجزاء من الأراضي المصنفة "ج" لدولة الاحتلال. بل إن خطة (كيري) تجاوزت عديد الخطوط الحمراء. ففي حين كان الحديث الأميركي دائماً عن حدود 1967، تخطى (كيري) هذا الموقف واقترب من الموقف الإسرائيلي في موضوع المطالبة بأغوار وادي الأردن. وقد شجع هذا الموقف "اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون سن القانون" للإسراع بإقرار اقتراح قانون لضم "المستوطنات" في غور الأردن الى إسرائيل، وكذلك ضم الشوارع التي تربطها، وأيضاً من دون أن يتم تحديد البناء في هذه "المستوطنات". كما يرى "القانون" المقترح أن "منطقة الأغوار هي خط الدفاع الأول عن أمن إسرائيل على حدودها الشرقية"، رغم علم الجميع أن إسرائيل تجني (620) مليون دولار سنوياً من استثمارها في الأغوار، وهو ما يفند ادعاءاتها بالسيطرة على هذه المنطقة لدوافع أمنية، بل هي أساساً دوافع اقتصادية، مع الرغبة والعمل لتفريغها لاحقاً من سكانها تحت ذات الذرائع الممجوجة: عدم حصولهم على تراخيص بناء، أو لدواعٍ أمنية وإجراء التدريبات العسكرية، والأهم رفضها وجود أي طرف ثالث لتوفير "الحماية" لإسرائيل على الحدود الشرقية سواء كان أميركياً أو "أطلسياً"، وكل ذلك يخفي أطماعها لاقتطاع أجزاء واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة في الأغوار تشكل مساحتها الإجمالية حوالى 28% من مساحة أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة وهي السلة الغذائية لدولة فلسطين المستقبلية. وهذا الموقف "الأمني" التعجيزي لإسرائيل، المدعوم حتى اللحظة أميركياً، يضرب أي أمل "لتسوية" يقبلها الطرف الفلسطيني. فمبادرة (كيري) تتضمن بقاء الاحتلال، لسنوات طويلة، في غور الأردن، فيما كانت المفاوضات أصلاً على أساس تحرير أراضي 1967، ناهيك عن الرفض الإسرائيلي لبدهية أن "التنسيق الأمني" في داخل الضفة الغربية المحتلة يطال الحدود أيضا! فما تقبل به (بل وتتغنى به) إسرائيل في رام الله ونابلس والخليل مثلاً من "تنسيق أمني"، بات مرفوضاً في شريط الحدود!. إذاً، نحن أمام إملاءات إسرائيلية وليس تفاوضاً على أساس الحدود الدنيا للحقوق الفلسطينية!.
في مقال للكاتب اليهودي والصهيوني "المعتدل" المعروف (هنري سيغمان) بعنوان "نتنياهو يقضي على عملية السلام وعلى دولة إسرائيل"، تناول بوادر فشل جولات (كيري) المكوكية لإيجاد حل، فكتب يقول: "بدلاً من أن تعالج محادثات السلام التي أُعيد استئنافها موضوعَ معارضة نتنياهو لإقامة دولة فلسطينيّة، إذ هي لا تزال تستند إلى زعم نتنياهو بأنّه ملتزم بحلّ إقامة دولتين، وأنّه لا بدّ من "الوساطة" الأميركيّة فقط من أجل مساعدة الطرفين على تقديم تنازلات قد تساعدهما على التوصّل إلى أهدافهما المشتركة. وبما أنّ هدف نتنياهو، الذي لا ينفك يعلن عنه، يقضي بإقامة مشروع استيطان جديد، بما فيه إعلانه الأخير عن البدء بعمليّات بناء واسعة النطاق في شرق القدس والضفة الغربية، لذلك لم تخلص المناقشات حول قضايا الوضع الدائم إلى أي نتائج واضحة". ومن المؤكد أن هذا الحال الإسرائيلي الرافض لأي مشاركة أميركية جدية في المفاوضات الجارية أدى إلى جعل حكومة الاحتلال تضغط على السلطة الفلسطينية باتجاه القبول بالإملاءات والاشتراطات التي تؤمن جانب الكيان الصهيوني من خلال مسيرة تسوية ترسم معالمها حكومة الاحتلال على أرض الواقع من خلال "الاستيطان" والتهويد. إذاً، في رفض إسرائيل تمكين الولايات المتحدة من المشاركة الحرة في المفاوضات مع إصرارها على رفض أي مشاركة (ولو رمزية) لدول أخرى غير الولايات المتحدة يكمن جذر المشكلة التفاوضية، في الماضي والحاضر. أما بشأن جوهر الحل، فهذا ما سنتناوله في المقال القادم.

 

 

 

المصدر: 
المستقبل