هنا ركع شارون وجيشه
«ملك إسرائيل» رحل من دون أن يتوَّج بجائزة نوبل للسلام. فاتته المناسبة. كان يستحقها بجدارة. الذين سبقوه إليها في إسرائيل، كانوا دون السوية التي بلغها، برغم ما أشيع حوله من «بطولات» دموية، أساءت إلى صورته لدى صناع الجوائز في عالم البيض.
مناحيم بيغن سبقه إلى توقيع اسمه على عمليات عسكرية إرهابية، أدت إلى ارتكاب مجازر، وأحياناً أقدم على نسف مقرات تابعة للحليف البريطاني في فندق الملك داود. لم يوفر يديه من «دم الاغيار»، وكان يفاخر بما «أبدعت يداه» من عبقرية القتل. توقيعه على سجله التاريخي الدموي، لم يمنعه من تقاسم جائزة نوبل للسلام، مع أنور السادات، غب توقيعه على معاهدة «كامب ديفيد».
صحيح ان السلام يصنعه المحاربون، إنما، يستثنى المجرمون من الجوائز. غير أن لإسرائيل حقوقا تنالها، برغم سجلها الأسود.
قبل ارييل شارون، تبوأ منصة أوسلو لنيل جائزة نوبل للسلام، كل من شيمون بيريز واسحق رابين، إلى جانب ياسر عرفات، غب التوقيع على اتفاق أوسلو العام 1994. ولبيريز تاريخ ديبلوماسي عريق، فهو صاحب مشروع القنبلة الذرية في إسرائيل، بدعم فرنسي، وهو مرتكب مجزرة قانا الأولى. أما رابين، فيكفي انه مبتكر تكسير عظام الأطفال، في الانتفاضة الأولى. من دون تذكر ما ارتكبه إبان خدمته العسكرية على جبهات القتال، وفي الفترة التي كان فيها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي. ربما، بالسخرية المناسبة، لم يجد الغرب، قريناً عربياً كشارون، كي يتقاسم معه جائزة نوبل. لو لم يقتل بشير الجميل، وسارت الأمور وفق استراتيجية «سلامة الجليل»، لتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، لكان الغرب غفر لشارون «هفواته» وتوجه ملكاً على إسرائيل، باسم السلام المضرج بآلاف الضحايا.
الغرب الرسمي مستعد لتنظيف سجل إسرائيل، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. ولقد فعلها مراراً. وأحياناً، كان يتغاضى عن المجزرة، وغالباً ما كان يجد لها تبريراً. فمن يجرؤ على لوم إسرائيل على جرائمها. حتى ارييل شارون، الصورة الأبشع في تاريخ إسرائيل، تم تبييضها بعدما قبل بخريطة الطريق. الذي كان سفاحاً مطلوباً للعدالة الدولية، استقبل في عواصم العالم على انه رجل السلام، والدليل، «انسحابه من قطاع غزة وتفكيكه للمستوطنات».
كتب هنريش فون فريشتك، الخبير الألماني في علم السياسة ما يلي: «يستحيل القانون الدولي مجرد عبارات إذا ما أردنا أن نطبق مبادئه على الشعوب الهمجية... نعم لعالمية حقوق الإنسان، لكنها لا تسري إلا على البيض». (آلان غريش، علام يطلق اسم فلسطين؟). في هذا المنظور، يصير المقتول مجرماً، والقاتل ضحية، والمدافع عن القاتل متمتعاً بحصانة إنسانية، لذلك، لا يخجل الغرب أبداً، من وقوفه الدائم إلى جانب إسرائيل، ومن صمته الأبدي على جرائمها.
فرنسوا هولاند، سارع إلى نعيه، فهو الذي أنهى تاريخه العسكري وحملاته بالاتجاه نحو السلام مع الفلسطينيين. جورج دبليو بوش، وصفه بالرجل الشجاع وانه صديق مخلص يعتز به. كلينتون وهيلاري، اعتبراه رجل سلام، وانه لأمر جيد ومثير للفرح ان تشتغل معه... وحبل الترحيب به بعد وفاته طويل ولن يتوقف.
ولا مفاجأة، إذا كان الذين ودعوا نلسون مانديلا، سيشاركون، ولو من بعيد، بوداع «مجرم الحرب» حتى بعد غيبوبته، متناسين عن عمد وعن مصلحة، الألقاب المشينة التي طالت شارون، من قبل إسرائيليين، استفظعوا وحشيته وساقوه إلى المحاكمة التي حملته مسؤولية «غير مباشرة» في مجازر صبرا وشاتيلا.
في تاريخه الذي يشهره إسرائيليون، نبذة عن صفاته التي أغدقت عليه، فهو «يميني متطرف» و«عنصري فظ» و«مجرم حرب» و«قاتل بدم بارد» و«محرِّض استيطاني» و«قائد للإرهاب الرسمي». في سجله، انه جاء من صفوف عصابات «الهاغاناه»، وإحدى «مآثره» العسكرية، انه أقدم على تنفيذ مجزرة في قبية الشهيرة في الأردن، حيث دمر 40 منزلاً على رؤوس سكانها. ويحمله كثيرون مسؤولية اندلاع الانتفاضة الثانية، التي «أباحت» له إعادة احتلال الضفة الغربية، ومحاصرة المقاطعة وحجز عرفات فيها، حتى لحظة اغتياله المرجح.
وفي سجله، مجزرة صبرا وشاتيلا. وقد أعفته بلجيكا من الحضور، عندما ألغت مراسم محاكمته فيها، وتم تبييض صفحته، ليتحول إلى ضيف جوَّال في عواصم الغرب، صاحبة الرقم القياسي في التشدق بحقوق الإنسان، والعدالة الدولية، والمبادئ الإنسانية.
مات شارون، لكن أرثه باق. ما أقدم عليه، هو نهج القادة الإسرائيليين السابقين والذين ورثوه من بعد غيبوبته. كتبت تانيا رينهارت عن ذلك بوضوح: الفوارق بين اليسار واليمين وما بينهما في إسرائيل، هو اللغة فقط. الأهداف والمرامي واحدة. فريق الحمائم الضعيف، يريد أن يحافظ على قواعد أوسلو، وتكريس ابارتهايد أبدي من خلال المفاوضات الدائمة التي لا نهاية لها. أما فريق الصقور فيريد إنهاء حرب الاستقلال العام 1948، بواسطة تطهير عرقي وتحويل الضفة إلى منطقة تختنق يوما بعد يوم بالمستوطنات.
انها سياسة جدار الفصل العنصري، والتفاوض المستدام، والاستيطان الدائم، والقبضة الحديدية... انه أمر أفظع مما ارتكبه البيض في جنوب افريقيا.
يبقى للتذكير فقط، ان شارون المنتصر. بطل الحروب كلها، الحائز على تقدير عالٍ، قد هُزِمَ في لبنان. هذا الذي قاد عملية «الدفرسوار» في سيناء، والذي عدّل مسار حرب تشرين، هزمته بيروت. خرج منها مولولاً. ترك الجبل بعد خيبته بتوقيع لبنان معاهدة سلام. إجلى جيشه عن الإقليم وصيدا، وانسحب إلى... ثم أقفلت عليه بوابة فاطمة.
لقد هزم اللبنانيون جيش شارون عسكرياً وسياسياً. فشل في تسليم لبنان لبشير الجميل، وفي انتزاع اتفاقية سلام، وفي ترحيل الفلسطينيين، لإنهاء المشكلة الفلسطينية برمتها، عبر إقامة دولة للفلسطينيين في لبنان.
من حق اللبنانيين أن يتذكروا وَيُذَكِّروا الآخرين: هنا ركع شارون وجيشه.
nsayegh@assafir.com