اسرائيل تفقد مكانتها الاستراتيجية
تنبأ «ارميا» احد انبياء اسرائيل بسقوط القدس، على ايدي ملوك بابل، فدعا اليهود الى الخضوع لملوك بابل، وحذرهم من مقاومتهم، ولكن اليهود حاربوا البابليين، فاحتل نبوخذ نصر القدس «٥٨٦ ق. م» وهدم اسوارها، وحمل خيرة سكانها من الكهنة والاطباء والحرفيين اسرى الى بابل للمشاركة في نهضتها.
وعندما استولى الملك الفارسي قورش العظيم «آحشويرش» على بابل «٥٣٨ ق. م»، فإنه سمح لليهود بالعودة الى فلسطين تكريماً لزوجته اليهودية «أستير»، ولكن القسم الاكبر منهم كان قد استقر في بابل، مع انهم فشلوا في زراعة الاراضي الموحلة، ولكنهم نجحوا في التجارة بين الشرق والغرب وازدادوا ثراء، فآثروا البقاء في بابل.
بقيت القدس محمية فارسية، فلم يكن لدى اليهود جيش، واعرضوا عن التورط في الحروب التي لم تجلب لهم غير المصائب. ويعتبر سقوط القدس «٧٠م» على يد الرومان نهاية الدولة العبرية، ونهاية الوجود اليهودي في فلسطين.
ويقول الكاتب اليهودي الامريكي هوارد فاست: «في ظل الحكم العربي بدأ العصر الذهبي ليهود اسبانيا». وفي ظل هذا الحكم برع اليهود في الطب والترجمة، وامتلكوا الاراضي الزراعية، واقاموا في القصور، ومارسوا التجارة على نطاق دولي، وكان منهم مستشارون للملوك والامراء العرب.
ومن كان منهم قد تحول الى النصرانية عاد الى اعتناق اليهودية ثانية.
الثابت تاريخياً، انه كلما اصطدم اليهود بدولة قوية، تعامل معهم الاقوياء بقسوة تبلغ حد الابادة او دفعهم الى الانتحار، على النقيض من مواقف كل الاغيار من اليهود كان موقف العرب الذين كانوا كلما ازدادوا قوة، كلما ازدادوا تسامحاً وتكريماً لليهود.
تميز الحضور اليهودي في التاريخ بالعنف سواء انتصر اليهود ام انهزموا. فلقد غزوا أرض كنعان وفعلوا بأهلها ما فعلوا. وغزاهم الاشوريون، والبابليون، والرومان، فعانوا من الهزائم والتشرد على ايدي الامم الوثنية، ولكن المؤمنين لم يكونوا اقل شدة على اليهود من غيرهم في اوروبا المسيحية، وفي اقطار بعينها مثل اسبانيا والمانيا وروسيا القيصرية.
لقد مثل العرب غرفة الانعاش للوجود اليهودي في العالم كلما كان هذا الوجود على شفير المحو والهلاك. تقول الموسوعة اليهودية «انسيكلوبيديا جودالكا» ان الخليفة عمر بن الخطاب قد سمح لليهود بالمجيء الى القدس بعد ان حررها العرب من البيزنطيين «٦٣٦م».
ويقول الكاتب الامريكي ماكس ديمونت :«لقد تهيأت الفرصة لليهود في اسبانيا ليتمتعوا على مدى خمسة قرون من حكم العرب المسلمين بمكانة علمية ومالية وسياسية سامية».
ويشيد الكاتب هوارد ساكر بالسلطان صلاح الدين الايوبي الذي قضى على الممالك الصليبية في فلسطين، حيث يقول ساكر: «انه تحت الحكم الاسلامي المتسامح، بدأت افواج اليهود الحجاج تتدفق على فلسطين من شمال افريقيا واوروبا، ومن اسبانيا بالذات».
في منتصف القرن التاسع عشر، كان عدد اليهود المقيمين في فلسطين يتجاوز الخمسة آلاف نسمة، اي انهم كانوا يشكلون ما نسبة ١٪ (واحد بالمائة) من عدد السكان العرب البالغ عددهم نصف مليون نسمة في ذلك الحين. وكان اليهود يتمتعون في فلسطين بالأمن والسلام نتيجة استيعابهم في المجتمع العربي. فقد كانوا من اليهود المستعربين الذين يتكلمون اللغة العربية، وكانت دوافعهم للمجيء الى فلسطين دينية بحتة، اما للعبادة، او قضاء ايامهم الاخيرة والموت في الارض المقدسة وكانت العروبة دائما ثوبا انسانيا فضفاضا يتسع للجميع.
لم يكن ثيودور هيرتزل (١٨٦٠-١٩٠٤) «ابو الصهيونية السياسية»، ومبتكر مشروع الدولة اليهودية، الذي هو في حقيقته مشروع امبريالي بريطاني، على علاقة من قريب او بعيد بهذا المشروع التآمري الامبراطوري. فقد كان هيرتزل يهوديا من مواليد المجر، وكان يعمل صحفيا في مدينة فيينا عاصمة امبراطورية «النمسا والمجر». وقد ادعى هيرتزل ان المشكلة اليهودية ليست اقتصادية او اجتماعية او دينية بل «قومية» وحلها هو بإقامة دولة يهودية، التي ستكون في حقيقتها الخفية ركيزة للامبراطورية البريطانية القادمة.
ولكن اصواتا يهودية مناهضة للصهيونية ارتفعت في الغرب في نفس الوقت الذي كان فيه هيرتزل يدعو لها، فإن هيرمان كوهين، ولودفيج جايجر من ممثلي الجالية اليهودية في المانيا اعتبرا الصهيونية حركة شديدة الخطورة على الروح الالمانية. وفي انجلترا رأى لوسيان ملف احد الشخصيات اليهودية الناشطة ان افكار هيرتزل خيانة صريحة وانها تثير العداء للسامية.
وفي الولايات المتحدة الامريكية اعلن مؤتمر للحاخاميين اليهود الاصلاحيين في «بتسبرج» في بيانه الرسمي :«اننا لا نعتبر انفسنا بعد اليوم امة بل جماعة دينية ولا نتطلع الى العودة الى فلسطين».
بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الاول (١٨٩٧) في بال - سويسرا وصف الحاخامون الاصلاحيون مشروع هيرتزل بأنه هوس صهيوني zionmania (زيونمانيا).
تلقى اليهود دروسا قاسية من التاريخ فعندما حاولوا مقاومة بابل وروما، فأنهم طرودا من فلسطين ومنطقة الشرق الادنى، هذا الى جانب خسائرهم البشرية والمادية، وعانى اليهود من الاضطهاد في الدول القوية التي عاشوا بين ظهراني شعوبها كالفراعنة والرومان والاسبان والروس والالمان، لذلك استوعب قادة اليهود الصهاينة دروس التاريخ جيداً.
وعندما شرع ثيودور هيرتزل في العمل على تجسيد المشروع الصهيوني على الارض، فإنه بدأ بالبحث عن حليف قوي لتقام الدولة اليهودية تحت جناحه، وظلت هذه الاستراتيجية سائدة لدى الحركة الصهيونية حتى يومنا هذا، ويستمر تعزيزها بإقناع الشريك القوي بأن الدولة اليهودية ستكون مكرسة لخدمة مصالحه اولاً.
انطلاقاً من هذه القاعدة، استطاعت الحركة الصهيونية، ان تحوز على تأييد الشرق والغرب لقرار تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧، ممثلين في الولايات المتحدة الاميركية التي أيدت القرار لأسباب تتعلق بمصالح الرئيس ترومان الانتخابية، اما الاتحاد السوفياتي فقد استشعر في الحكومات العربية تبعية الغرب، بينما كان لدى اليهود حزب شيوعي في فلسطين.
على نفس القاعدة، تآمرت اسرائيل مع فرنسا وبريطانيا (١٩٥٦) في حرب السويس ضد مصر، ولكن تلك المؤامرة فشلت لأنها كانت من خلف ظهر كل من اميركا والاتحاد السوفياتي، حيث وقف هذان الطرفان بقوة ضد اسرائيل مما اضطرها للانسحاب من شبه جزيرة سيناء.
اما في حرب ١٩٦٧، فقد فازت اسرائيل بالغنيمة حيث صور اعلامها للرأي العام الاميركي ان انتصارها على مصر وسوريا بأنه قضاء على النفوذ السوفياتي في الشرق الاوسط، وبفضل آرثر غولدبيرغ مندوب اميركا اليهودي في الأمم المتحدة، وانشغال الرئيس جونسون بحرب فيتنام، وبهيمنة هنري كيسنجر اليهودي من اصل الماني الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية في عهد الرئيس نيكسون الذي رفع مستوى العلاقة بين اميركا واسرائيل الى مرتبة التحالف.
بعد التوقيع على معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية (١٩٧٩)، وانهيار الاتحاد السوفياتي، لم يعد امام اميركا ما تخشى منه على امدادات النفط من الشرق الاوسط، وبدأ يظهر التباين في المصالح بين اميركا واسرائيل في الشرق الاوسط في عهد الرئيس جورج بوش الأب الذي منع اسرائيل من الاشتراك في الحرب ضد العراق خلال استعادة الكويت، رغم ان اسرائيل استهدفت بالصواريخ العراقية خلال تلك الحرب.
بعد تغير الاحوال السياسية على مستوى العالم، ومن ضمنه منطقة الشرق الاوسط بانتهاء الحرب الباردة، لم تعد لاميركا حاجة ماسة لاستخدام اسرائيل في مهمات اقليمية، فالشعوب العربية متهالكة، والحكام العرب يعدون الساعات والدقائق في انتظار الرحيل عن ارض ظنوا يوماً انها ملكية غير قابلة للانتزاع.