«كيري» والبحث عن إنجاز شرق أوسطي

بقلم: 

كيري يحاول الظفر بموافقة نتنياهو وعباس على «إطار» يحدد المبادئ العامة لاتفاق نهائي، ويتحاشى التفاصيل جاكسون ديل محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس» مزيد من «البراميل المتفجرة» سقطت على المدن السورية هذا الأسبوع، والمدنيون المحاصَرون مازالوا يموتون جوعاً في ضواحي دمشق، وفي الأثناء، يترنح لبنان والعراق تحت وقع الاغتيالات والنزاع الطائفي. ولكن، أين هو جون كيري يا ترى؟ إنه في القدس ورام الله الهادئتين حيث يواصل محاولته الصعبة لرعاية اتفاق سلام شامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن كيف يمكن تفسير هذا الاختيار الغريب للأولويات؟ البعض، مثلي، يجادل بأنها محاولة من قبل سيناتور ومرشح رئاسي سابق في السبعين من عمره لترك تركة سياسية وتحقيق إنجاز يدخله التاريخ، ولكنه لم يفلح في إقناع أحد غير نفسه بأنه يستطيع النجاح حيث فشل الكثيرون من قبله ممن سعوا إلى رعاية اتفاق سلام في الشرق الأوسط. غير أن ثمة رأياً آخر يرى أن كيري يقوم بتسخير خبراته الدبلوماسية واستعمال مواهبه السياسية بدهاء، حيث من الأرجح أن يكون لها تأثير تحت رئاسة رئيس نسف مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أو كاد. 

ويذهب القائلون بهذا الرأي إلى أن الإسرائيليين والفلسطينيين على الأقل يظلون حذرين ولا يتجرؤون على تحدي وزير خارجية أميركي. والواقع أن التاريخ الطويل لإخفاقات «عملية السلام» في الشرق الأوسط، والأسلوب المعروف لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، يرجحان إمكانية أن يكون المتشككون على حق. غير أن بعض الأشخاص الأذكياء الذين أعرفهم بدؤوا يتحوطون في الرهان على فشل كيري، وذلك لأنه ينتهج أسلوباً أكثر حكمة من الناحية التكتيكية، مقارنة مع ما فعله أوباما خلال ولايته الرئاسية الأولى.

والحق أن أوباما أيضاً كان يعتقد أنه سيكون الرئيس الذي سينجح في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وحدد لنفسه بكل ثقة مهلة عامين لبلوغ هذا الهدف. غير أن استراتيجيته باءت بالفشل على نحو كارثي لأن أوباما جعل من تجميد بناء المستوطنات الإسرائيلية النقطة المحورية للدبلوماسية الأميركية، وظن أن من شأن مواجهة علنية مع نتنياهو أن تحقق له ذلك. والحال أنه لم ينجح سوى في تسميم علاقاته مع الزعيم الإسرائيلي، الذي نجح في إعادة الانتخاب العام الماضي في وقت واصل فيه توسيع المستوطنات. ولم تثمر جهود أوباما سوى حفنة من الاجتماعات العقيمة بين المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبالمقابل، أبلى كيري بلاء أحسن من ذلك، وذلك بفضل عودته إلى الأساليب الأميركية التقليدية في التعاطي مع الزعماء الإسرائيليين، حيث أجرى مع نتنياهو محادثات سرية لم يتسرب منها الكثير. وتحاشى موضوع المستوطنات السام إذ اعتبره، وعن حق، «عرضاً جانبياً». كما أنه وافق في هدوء على مطلبي نتنياهو الأولين- أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولة يهودية، وأن يقبلوا وجوداً طويلاً لجنود إسرائيليين على أراضيهم. وكانت الفكرة من وراء ذلك تتمثل في أن القيام بذلك يمكن أن يفضي إلى تنازلات إسرائيلية تغري عباس. غير أنه أصبح واضحاً هذا الأسبوع أن كيري قام أيضاً بتعديل هدفه غير الواقعي إلى حد كبير والمتمثل في إتمام اتفاق قبل نهاية أبريل المقبل. ورغم أن مساعديه يقولون إن ذلك مازال هو الهدف المسطر، إلا أنه انتقل نحو محاولة الظفر بموافقة نتنياهو وعباس على «إطار» يحدد المبادئ العامة لاتفاق نهائي، ويتحاشى التفاصيل، وهو ما قد يسمح بالتوصل إلى اتفاق يمنح الجانبين سبباً لتمديد المفاوضات لستة أشهر أو عام، ويسمح لكيري بإعلان نصر دبلوماسي. والواقع أنه سبق للإسرائيليين والفلسطينيين أن وافقوا على إطارات تحت رعاية الولايات المتحدة، وآخرها «خريطة الطريق» التي وضعها بوش الابن؛ غير أن هدف كيري هو تحديد إطار يكون أكثر جوهرية. والأرجح أن هذا الإطار سيشمل اعترافاً فلسطينياً بإسرائيل كدولة يهودية، ونشر جنود إسرائيليين بالقرب من الحدود الأردنية، ولغة تستبعد «عودة» جماعية للاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل. وبالمقابل، يُتوقع من نتنياهو أن يوافق على مبدأي أن تكون حدود الدولة الفلسطينية المقبلة قائمة على أساس حدود 1967 وأن تكون عاصمتها في القدس.

الجانب الإيجابي الممكن في هذا الإطار هو أنه قد يرسي الأسس للتنازلات الجوهرية التي سيقدمها كل جانب بدون الخوض في التفاصيل، حيث توجد فيها الكثير من الشياطين. وعلى سبيل المثال، فإنه من الوارد أن يوافق نتنياهو على حدود 1967 كأساس للمفاوضات، غير أنه من المستبعد، بالمقابل، التوصل لاتفاق إسرائيلي- فلسطيني بحلول شهر أبريل حول مكان الحدود بالضبط. كما أن الإسرائيليين قد يوافقوا على فكرة «القدس عاصمة لفلسطين»، وهم يفكرون في ضاحية بعيدة في الوقت الذي يتصور فيه الفلسطينيون أنفسهم يتمتعون بالسيادة في المدينة العتقية. بيد أن المشكلة أن الأمر مازال يتطلب قرارات شجاعة وجريئة من رجلين بنيا حياتيهما السياسية على الحذر والمماطلة. والحال أن عباس ونتنياهو، اللذين يحكمان جزراً متزعزعة من الهدوء في شرق أوسط تعمه الاضطرابات، ويواجهان تهديداً من المتشددين الداخليين والأعداء الخارجيين، لديهما كل الأسباب لتجنب أي اتفاق جوهري حقاً، ولو على «إطار» للمفاوضات، وذلك لأنهما، وخلافاً لجون كيري، لديهما الكثير ليخسرانه.

المصدر: 
الاتحاد