كيري يتحول من وسيط سلام إلى خصم

بقلم: 

 

كان من المقرر أن يبدأ وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، رحلته التاسعة في دبلوماسيته المكوكية متنقلاً بين القادة الفلسطينيين والإسرائيليين يوم 11 كانون الأول (ديسمبر). ومع ذلك، فإن جسر "الترتيبات الأمنية" التي كان قد اقترحها قبل أقل من أسبوع مضى على أحدث رحلة له جاءت بنتائج عكسية، وتحولت راهناً إلى أزمة رئيسية مع المفاوضين الفلسطينيين الذين ينظرون إلى "أفكار" كيري على أنها انقلاب يحول أعلى دبلوماسي أميركي من وسيط إلى خصم.

تسببت "أفكار" كيري في "أزمة فعلية"، وسوف تدفع بجهوده إلى الجمود والفشل الكلي الذريع، كما قال الأمين العام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عبد ربه، يوم التاسع من الشهر الحالي.

كان استئناف مفاوضات السلام والانخراط الأميركي فيها على رأس المطالبات الفلسطينية. ويبدو أن الرئاسة الفلسطينية ندمت الآن على كلا المطلبين بسبب خيبة الأمل التي لحقت بالمفاوضات المجمدة، وكذلك الطريقة التي قرر كيري إشراك بلده بها. ويبدو أن دبلوماسية كيري المكوكية خلال رحلته الأخيرة كانت تهدف إلى السيطرة على الضرر الذي تسببت به "أفكاره- اقتراحه" أكثر منها لتسهيل المباحثات الفلسطينية-الإسرائيلية الثنائية المجمدة.

يوم السادس من كانون الأول (ديسمبر)، وضع 160 متخصصاً أمنياً أميركياً ودبلوماسياً برئاسة الجنرال جون ألين، القائد السابق للقوات الأميركية في أفغانستان، مسودة "الاقتراح"، معتقدين بأننا "نستطيع المساهمة بأفكار يمكنها مساعدة كل من الإسرائيليين والفلسطينيين على التوصل إلى اتفاقية". ووفق تسريبات نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية البارزة، بما فيها القناة الإخبارية 10 وصحف معاريف ويديعوت أحرونوت وديبكافايل، بالإضافة إلى الصحيفة اليومية الفلسطينية الرسمية "الأيام"، فإن "الترتيبات الأمنية" الأميركية تقترح ما يلي:

• نزع سلاح الدولة الفلسطينية المستقبلية

• مراقبة أميركية على هذا النزع للسلاح.

• وضع معابر الحدود إلى الأردن تحت سيطرة فلسطينية- إسرائيلية مشتركة.

• الإبقاء على تواجد عسكري إسرائيلي منتشر على طول الجانب الغربي لنهر الأردن بعد تأسيس دولة فلسطينية.

• تركيب محطات إنذار إسرائيلية على المنحدرات الشرقية لتلال الضفة الغربية.

• تأجيل ترتيبات الوضع النهائي لقطاع غزة، أي إسقاط القطاع من الحالة التي خطط لها اقتراح كيري الخاص بالضفة الغربية.

• كل ما تقدم يتم على خلفية اعتراف الولايات المتحدة بأن المستوطنات الاستعمارية الضخمة غير الشرعية في الضفة الغربية ستضم إلى إسرائيل، وفق الرسالة التي بعث بها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرئيل شارون، في نيسان (ابريل) من العام 2004. (لم يكن شارون حينذاك في الغيبوبة التي أصابته بعد تعرضه لجلطة دماغية بعد ذلك بعامين، وأفضت إلى وفاته في وقت سابق من هذا العام). وما تزال الإدارة الحالية للرئيس باراك أوباما ملتزمة بمضمون تلك الرسالة.

من الواضح أن كيري وإدارته قد نسقوا انقلاباً سياسياً من خلال تبني الشروط الإسرائيلية المسبقة للاعتراف بدولة فلسطينية بشكل حرفي تقريباً، قالبين الأولويات الفلسطينية على رأسها، ومغيرين الشروط التفضيلية للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي كان كيري قد نجح في استئنافها ورعايتها في تموز (يوليو) الماضي. وكان كيري قد قال عندما أعلن عن استئناف المفاوضات في 29 تموز (يوليو) الماضي أن هدفه سيكون مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على التوصل إلى "اتفاق وضع نهائي" في غضون تسعة شهور.

الآن، وبينما يتحدث أمام منتدى سابان في معهد بروكينغز في واشنطن قبل أيام، قال الرئيس باراك أوباما أنه كان لا بد من وجود "عملية انتقالية"، وأن الفلسطينيين لن يحصلوا "على كل شيء يريدونه في اليوم الأول" بموجب اتفاق قد يستثني غزة، ولندع "الدولة الفلسطينية مترابطة الأطراف" التي كان قد وعد بها في السابق تنتظر. وقال أن الهدف من المفاوضات الآن هو الوصول إلى "إطار عمل لا يخاطب كل تفصيل".

وفي نفس المناسبة، تحدث كيري عن" إطار العمل الرئيسي" ووضع "خطوط استرشادية" لـ"مفاوضات لاحقة" من أجل إبرام "معاهدة سلام مكتملة الأركان. أي، وفق لعبه على الكلمات، "خريطة طريق" أخرى.

وألمح كيري أيضاً إلى إن المفاوضات قد تمتد إلى ما وراء الأشهر التسعة المتفق عليها. وهكذا، يكون الأمر، من منظور فلسطيني، هو تخطيط لشراء إسرائيل المزيد من الوقت لخلق المزيد من الوقائع الاستعمارية على الأرض الفلسطينية المحتلة.

لقد حيدت "أفكار" كيري "معسكر السلام" الفلسطيني والمفاوضين بقيادة حركة فتح التي تحكم السلطة الفلسطينية وتقود منظمة التحرير الفلسطينية، والذين وضعوا كل البيض في السلة الأميركية طيلة العقدين الماضيين، ناهيك عن كافة الفصائل الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تعارض استئناف المفاوضات مع إسرائيل لمسوغات براغماتية، أولها أنها لا تثق بالوسيط الأميركي. وقد جسد كيري أسوأ مخاوف هذه الجهات. أما التنظيمات التي لا تتمتع بالعضوية في منظمة التحرير الفلسطينية، مثل حماس والجهاد الإسلامي، فتعارض المفاوضات كمسألة مبدأ.

يوم 8 كانون الأول (ديسمبر)، حسب صحيفة "ذا تايمز" الإسرائيلية بعد ثلاثة أيام من ذلك، التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالقنصل الأميركي العام في القدس، مايكل راتني، ورفض الاقتراح رسمياً، قائلا أن الموقف الفلسطيني "غير قابل للتراجع عنه": لا تواجد إسرائيلي، ولو أن الفلسطينيين ربما يقبلون تواجداً عسكرياً لطرف ثالث.

وفي نفس اليوم، وبمناسبة ذكرى الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال العسكري الإسرائيلي في العام 1987، قالت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيان لها أن الشعب الفلسطيني لن يقبل خطة كيري المقترحة، والتي وصفها الأمين العام للمنظمة، ياسر عبد ربه، بأنها "جد غامضة" و"مفتوحة النهاية".

وفي نفس اليوم في قطر، وفي معرض تعليقه على اقتراحات كيري، قال كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، أن القيادة الفلسطينية "ربما ارتكبت خطأ استراتيجياً" من خلال الموافقة على استئناف المفاوضات مع إسرائيل بدلاً من السعي أولاً إلى كسب عضوية المنظمات الدولية، بناء على اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام الماضي بفلسطين كدولة مراقب غير عضو.

من ناحيته، دعا الرجل الثاني بعد عريقات في الفريق المفاوض، محمد شتيه، والذي استقال من منصبه مؤخراً لأنه لا يوجد "شريك إسرائيلي جاد"، إلى استبدال الرعاية الأميركية للمفاوضات بواحدة دولية متماشية مع نمط مؤتمرات جنيف حول إيران وسورية، لأن الرعاية الأميركية "غير متوازنة".

وكتب المفاوض السابق حسن عصفور أن خطة كيري التي وصفها بأنها "مؤامرة" سوف "تصفي المسألة الفلسطينية وتضع حداً لأي أمل بدولة فلسطينية"، مضيفاً أن رفضها "ضروري وواجب وطني" لأنها "تنتهك الثوابت الوطنية".

وقال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والمفاوض الفلسطيني السابق، أحمد قريع، أن خطة كيري تستبدل صيغة الأرض مقابل السلام بواحدة تدعو للأمن في مقابل السلام كأساس للمباحثات الفلسطينية – الإسرائيلية.

وقال عبد ربه في رام الله أنه إذا قبلت الولايات المتحدة بأن تحدد الحدود النهائية وفقاً لما تقرر إسرائيل أنه احتياجاتها الأمنية، فإن "كل شياطين جهنم ستنطلق من عقالها".

وكان كيري في رحلته الأخيرة الثامنة قد حذر الإسرائيليين من انتفاضة فلسطينية ثالثة، وكأنه يمهد الأرضية لها. ذلك أن "أفكاره" تتصادم مباشرة مع الرفض الفلسطيني المكرر والجلي، استناداً إلى الترتيبات الانتقالية الطويلة أو القصيرة المؤقتة المستندة إلى ضمان أمن إسرائيل فقط. ويبدو أنه مهووس بأمن إسرائيل بوصفه "أولوية أولى" بالنسبة لواشنطن في المباحثات النووية مع ايران، وفي مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. وفي ظهوره الصحفي في مطار بن غوريون يوم 6 كانون الأول (ديسمبر) استخدم كلمتي "أمن" و"آمنة" عشرين مرة فيما يتعلق بإسرائيل، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة عن "الاحتلال" و"المستوطنات" الإسرائيلية. وقال إن التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل "صارم" و"يمتد لعقود" و"دائم" و"لا يضاهيه شيء"، و"قضية مركزية" في عمل الولايات المتحدة من أجل التوصل إلى اتفاقيتين نهائيتين مع إيران والفلسطينيين. وكان الرئيس أوباما قد قال مؤخراً أن التزامه بذلك "مقدس".

يوم 3 كانون الأول (ديسمبر)، أورد جورج فريدمان من ستراتفور أن "موقف إسرائيل الإستراتيجي الراهن ممتاز" وأنها "لا تواجه أي تهديدات وجودية". وبخصوص احتمال أن تطور إيران سلاحاً نوويا كتب فريدمان:" إن واحداً من المسوغات التي لم تدفع إسرائيل لمحاولة توجيه ضربة جوية وواحداً من المسوغات التي دفعت الولايات المتحدة إلى رفض دراسة الضربة، هو أن احتمالات تطوير إيران لسلاح نووي ما تزال بعيدة".

بالرغم من الاعتراضات على "الترتيبات الأمنية" لكيري من جانب وزيري الدفاع والخارجية الإسرائيليين، موشي يعالون وأفيغدور ليبرمان، أقرت كبيرة المفاوضين الإسرائيليين ووزيرة العدل، تسيبي لفني، بأن إطار العمل الأمني الأميركي المقترح يخاطب جزءاً ضخماً من احتياجات إسرائيل الأمنية.

لا يمكن تأويل كل هذا الهوس بـ"أمن إسرائيل" ببساطة على أنه التزام ساذج ينطلق من حسن نية لشخصية مخضرمة في السياسة الخارجية مثل كيري. والأرجح أن كيري يملي على الرئاسة الفلسطينية ويضغط عليها بالخيار الوحيد: "أخذ" اقتراحه أو "تركه"، ليكون الخيار محكوماً بالموت في كلا الحالين، إما بسبب الشعب الفلسطيني أو الجهات المانحة للسلطة الفلسطينية بقيادة الولايات المتحدة. مع أصدقاء مثل كيري، لا يحتاج الفلسطيني عباس لأي أعداء بكل تأكيد.

من المفارقات أن "أفكار" كيري تخلق أرضية سياسية صلبة لنشوء إجماع فلسطيني سيكون أساساً موضوعياً لإنهاء الانقسام الفلسطيني وإحياء الوحدة الوطنية بين منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في قطاع غزة، كمتطلب أساسي يمكن الفلسطينيين من التصدي "لانقلاب" كيري.

مع ذلك، يظل هذا التطور رهن قرار يتخذه الرئيس عباس الذي ما يزال يسبح عكس التيار الوطني، لأنه جعل من صنع السلام من خلال المفاوضات فقط هدف حياته ومهنته السياسية.

*صحفي فلسطيني مقيم في بيرزيت في الضفة الغربية.

 

 

المصدر: 
ميدل إيست أونلاين