في وداع د. اياد السراج

بقلم: 

كانت مفاجأة بالنسبة اليّ، ان يغادر دنيانا د. اياد السراج في بحر الاسبوع الفائت، وقد تحمل المفاجأة شيئا من المفارقة، لسببين: الاول هو ان الموت كأس تدور على الناس جميعا، والثاني انني لم أر المرحوم د. السراج الا مرات محدودة، ولم اجتمع اليه اجتماعا مطولا الا مرة واحدة بمعنى ان الجانب الذاتي في مفاجأتي، محدود الى حد بعيد، اما على المستوى الموضوعي الانساني فإنني ألتمس حقا لي في ان اكون احد المفجوعين بغياب هذه القامة الفريدة..
لقد اخذت إثر اجتماعي اليتيم الى الرجل الكبير، انطباعا عميقا عن قوة شعوره بالحق الانساني وارسائه في حياتنا الوطنية من خلال اقامة مجتمع مدني تكون ركيزته الاولى حرية الانسان وكرامته واستقلاله، وهي امور نكاد لقربها الشديد من عيوننا لا نتبينها بالتفصيل.. وليس في هذا انتقاص، لا سمح الله، من قوة الروح المدنية فينا، بل هو انتباه - وان شئتم محاولة انتباه - الى حاجتنا المتصلة للتذكير اليومي بهذا الشعور المتأصل او الواجب تأصيله فينا..
اذكر انني سألته ما اذا كان تقدميا في اختياراته السياسية، فابتسم لبراءة سؤالي او رعونة استفساري واجاب ساخرا: كم ثمن كيلو التقدم الواحد في حسابكم؟ واضاف: ليست المسألة في اليافطة التي اعلقها على صدري، بل في مبدأ احترام الانسان بما هو انسان، والا فأخبرني: هل تعتبر ابا علي انسانا؟
وكان ابو علي المذكور مواطنا بسيطا قد تعرض للاعتقال بضعة ايام، وافرج عنه لثبوت براءته.. وكان سؤال د. السراج عما اذا كان في الدنيا كلها ما يكفي لتعويض انسان عادي عن ثلاثة ايام او اربعة قضاها في المعتقل وهو بريء.. وشدد انه لا يعرف ابا علي هذا على المستوى الشخصي، ولكنه انا او انت او اي عابر طريق..
بهذه الروح الحقوقية، كان المرحوم د. اياد السراج، يقدم مرافعاته دفاعا عن الانسان مطلق الانسان وحقه في ان يعيش ويعمل والا يؤخذ الى بيت خالته..
والحق ان المرحوم قد سيق الى بيت خالته ذات يوم، وقيل ان الامر لم يأخذ وقتا طويلا، بل اعتذر بعض المسؤولين عن ذلك، وقيل اكثر.. فقد شاع ان قائدنا الراحل ابا عمار قد طيب خاطر الرجل، وسأله ما اذا كان يوافق على ان يأخذ حقيبة وزارية..
ولأنني لم اتحقق من تلك الرواية فإنني لم اسأل عن رد فعل د. السراج عليها، وان كنت اتخيله يعتذر عن قبول ذلك. فهذا رجل لم يدخل معترك الحياة العامة، رحمه الله، بحثا عن منصب او الموقع.. اما المنصب فلم يكن في عينه ولا ضمن مشروعه، واما الموقع فإنه يحتل في قلوب الناس البسطاء موقعا لا يصل اليه الكثيرون من النافذين..
المجتمع المدني، وجدارة الفلسطيني بأن يكون مواطنا في المجتمع المدني، وحرية المواطن اللامحدودة الا في اطار القانون والحق.. تلك هي الشعارات الذهبية التي كانت تملك على الرجل حياته ومشروعه الوطني.. اما وقد ذكرت المشروع الوطني فغني عن القول ان المرحوم د. السراج كان في طليعة المدافعين عن الوطن خلال فترة الاحتلال.. كما هو من رموز الدفاع عن مبدأ المواطنة بعد قيام السلطة..
وفي اللغة الشعبية لاهل بلدنا، كان المرحوم ابن اسرة كريمة مرموقة، الا ان وقوعه في آل السراج لم يعطه امتيازا لا يريده هو اصلا، فهو ذلك المحامي الغزي الذي يرى المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، والى ذلك يجب الا نغفل انه كان مثقفا، بالمعنى العملي لعبارة مثقف عضوي، فهو ابن البلد.. وليس قليلا ان تكون ابن بلدك حقا عندما تعي المعنى التاريخي والحقوقي لذلك.. وعليه فلم تكن تستهويه الكلمات الكبيرة والاعتبارات الطنانة، بل كان يكفيه انه هو: د. اياد السراج، تماما كما هو حق اي فلان في ان يكون فلانا او ابن فلان..
رحم الله فقيد الوطن، فقد كان درسا عفويا في فهم المواطنة، وكان على استعداد دائم لدفع ثمن هذه الحقيقة العفوية، وقد فعل فاستحق تلك المنزلة في قلوب الناس..
لا أطالب باطلاق اسمه على شارع او مدرسة، ولكني ارى هذا الاسم الوفي محفورا في قلوب الناس الشرفاء.. وهؤلاء لا ينسون رموزهم واحلامهم ومشروعهم الوطني الحضاري.
ولانني حمصي المنشأ والذاكرة، اتذكر قول الشاعر ديك الجن الحمصي:
بكاك اخ لم تحوه بقرابة
بلى، ان اخوان الصفاء اقارب
ولقد كان المرحوم د. اياد السراج أخا من هؤلاء من اخوان الصفاء.. رحمه الله..

المصدر: 
الحياة الجديدة