حق العودة خطّ رُسم بالدم الأحمر لا يمكن تجاوزه

بقلم: 

 

تنشط اسرائيل بشكل محموم لا يخلو من التشوش والتناقض منذ بدء مفاوضات السلام الحالية للالتفاف على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. فمن جهة تعلن رفضها لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتطالب الدول الغربية بممارسة الضغط على القادة الفلسطينيين للتنازل عن هذا الحق، وفي نفس الوقت تحاول تنظيم اليهود العرب، من بين بقية الجنسيات الاخرى التي هاجرت الى اسرائيل، والادعاء بانهم هم ايضا لاجئون، معتقدة ان باستطاعتها من خلال ذلك اجراء عملية مقايضة بينهم وبين اللاجئين الفلسطينيين.

في الوقت الذي تعتبر فيه سياسة الخداع جزءا اصيلا من السياسة والثقافة الصهيونية، فان القادة الصهاينة لم ينجحوا فقط في خداع البعض من شعوب العالم، وانما نجحوا ايضا، جراء كبر حجم اكاذيبهم وتكرارها، ان صدقوا اكاذيبهم واصبحوا ومعظم يهود العالم الضحايا الرئيسيين لهذا الخداع قبل غيرهم. ولكن المشكلة هنا لا تكمن في اسرائيل وطبيعتها وتمنيات قادتها وهلوساتهم، وانما في الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص والعالم الغربي بشكل عام الذين يتبنون هذه الهلوسات الاسرائيلية ويحاولون الضغط والترهيب والترغيب على الطرف الفلسطيني وتوظيف اخر مبتكرات ما توصلت اليه بهلوانياتهم السياسية لتحقيق هذا الهراء والتحايل على حقوق الشعب الفلسطيني.

فقد اشارت صحيفة ‘هآرتس′ الاسرائيلية في 1/8/2013 الى ان وزير الخارجية الامريكية جون كيري قدم ‘كتب ضمانات’ بشكل منفصل الى كل من الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، تتعلق بشكل رئيسي بمسألتي الحدود واللاجئين، حيث تعهد للطرف الفلسطيني، بان مباحثات الحدود سوف تجري على اساس خطوط 1967 مع تبادل للاراضي، وبأن تعهده للطرف الاسرائيلي حول اللاجئين تضمن تصريحا امريكيا بان ‘اسرائيل هي دولة يهودية وان موقف الولايات المتحدة هو ان على اللاجئين الفلسطينيين ان يعودوا الى الدولة الفلسطينية المستقبلية’.’ وهو بيت القصيد الاسرائيلي الذي تعمل الولايات المتحدة الامريكية على تحقيقه. واعلن السيد كيري في المؤتمر الصحافي في واشنطن حول بدء المفاوضات، ان الطرفين قد اتفقا على ان الهدف من المباحثات هو تحقيق ‘تسوية دائمة تشكل انهاء للنزاع الاسرائيلي- الفلسطيني، ونهاية للمطالب المتبادلة’ خلال تسعة اشهر.

وفي اليوم التالي لاعلان السيد كيري، كشفت صحيفة ‘هآرتس′ ايضا في 1/8/2013 ان رئيس الوزراء نتنياهو قال خلال جلسة تقييم المفاوضات انه ‘اذا تم حل قضية اللاجئين الفلسطينيين داخل حدود الدولة الفلسطينية المرتقبة وتوافق الجميع على مسألة التعويضات، فان اغلبية الامور الاخرى يمكن الاتفاق عليها خلال ايام’. كما سخر نتنياهو زيارة رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا هولاند لاسرائيل وفلسطين في 17/11/2013، للمطالبة باسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى مدنهم وقراهم’واملاكهم وبيوتهم التي طردوا منها، حيث طلب من هولاند ان يطالب خلال اجتماعه مع ابو مازن الفلسطينيين باسقاط حق العودة و’الاعتراف بالدولة القومية للشعب اليهودي’.

ولكن من العجب انه بدلا من ان يتمسك السيد هولاند بالمبادئ التي تفتخر بها فرنسا في الديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الانسان، ورفض العنصرية الاسرائيلية، قام فعلا وبدون اي خجل بخيانة هذه المبادئ الانسانية وتبنى المطالب الاسرائيلية’ المتخلفة والعنصرية. فقد طلب خلال اجتماعه مع الرئيس ابو مازن في رام الله، ما قام بترديده في المؤتمر الصحافي المشترك معه في 18/11/2013،’ قائلا ‘اقول للفلسطينيين يجب ان تكون مقترحاتكم واقعية في ما يتعلق باللاجئين’. هذا في الوقت الذي اعلن فيه ايضا عن ‘التزام فرنسابالحقوق الاساسية للشعب الفلسطيني’. متناسيا ان حق العودة هو في صلب الحقوق الاساسية للشعب الفلسطيني، والواقعية الدولية المغايرة للواقعية التي يريد تفصيلها على مقاس اسرائيل. واستطرد قائلا ‘المبادرة المطلوبة من الجانب الاسرائيلي وقف الاستيطان، ومن الجانب الفلسطيني تأجيل بحث مسألة اللاجئين، تحدثنا مع الرئيس عباس بهذا الموضوع، كما تحدثنا عن ضرورة ايجاد حل واقعي لهذه القضية.’

ولم يقل لنا السيد هولاند ما هي هذه الواقعية التي يطالبنا بها؟ هل هي في خرق الشرائع والقوانين الدولية والتخلي عن حقوقنا الشرعية التي يتنعم بها هو والشعب الفرنسي وكل البشر، وهي ان نعيش في وطننا في مساواة بدون اية تفرقة عنصرية؟ ان دل هذا على شيء فهو يشير الى درك الانحطاط الذي وصله الفرنسيون والعالم الغربي لاسترضاء اسرائيل وتشجيعها في عدوانها واحتلالها وعنصريتها.

وفي مقابلة مع البروفيسور الون بن ميئير نشرت على اليوتوب في 21/11/2013 قال ايهود اولمرت ‘لماذا تريد ان تنشأ دولة فلسطينية اذا كنت تريد كل اللاجئين الفلسطينيين ان يأتوا الى الدولة اليهودية؟ هذا جنون. طبعا فكرة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى اماكنهم الاصلية كانت عندما لم يكن يتكلم احد عن انشاء دولة فلسطينية، لذلك، فان كل الفكرة حول انشاء دولة فلسطينية هي ان تكون وطنهم’.

لقد تناسى اولمرت ان موضوع اللاجئين الفلسطينيين هو لب القضية الفلسطينية وجوهرها الرئيسي. فحق العودة هو حق انساني غير قابل للتصرف، انه حقهم في العودة لا الى غزة ورام الله وغيرها وانما الى مدنهم وقراهم واملاكهم، الى حيفا ويافا وعكا وصفد التي طردوا منها بغير حق عام 1948، وحقهم في تقرير مصيرهم على ارضهم ككل البشر.

وتناسى اولمرت ان هذا هو اصلا الموقف الدولي الذي عبر عنه في قرار 181 عندما قسم فلسطين الى دولتين، فالعالم لم يكن يعني ان تقوم اسرائيل بطرد الفلسطينيين من الدولة اليهودية التي وافق على اقامتها في فلسطين، لذلك عندما قامت اسرائيل بطرد الفلسطينيين من مدنهم وقراهم وبيوتهم، اصدرت هيئة الامم المتحدة قرار 194 تطالب فيه اسرائيل بعودة اللاجئين الى بيوتهم والتعويض لهم لما اصابهم من خسائر. كما انه تناسى ايضا انه حتى وعد بلفور، ضمن حق الشعب الفلسطيني في العيش في مدنه وقراه، ناهيك عما كان الصهاينة انفسهم يدعونه قبل قيام اسرائيل بان كل ما يريدونه هو التعايش فيفلسطين بسلام مع الشعب الفلسطيني.

ان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى مدنهم واملاكهم والتعويض لهم، ليس قابلا لا للتفاوض ولا للاستفتاء، وهو ليس منة من احد عليهم، انه حق يضمنه لهم القانون الدولي وشرائع حقوق الانسان وقرارات هيئة الامم المتحدة ذات الصلة، بما فيها قرار رقم 194، وهم وحدهم من لديه الحق في الاختيار بين العودة والتعويض. فالحقيقة هي انه ما لم يجر حل حق العودة بشكل يرضي اللاجئين انفسهم لن يُحَل شيء ولو جرى التوقيع على مئة اتفاقية تدعي السلام. كما ان حق العودة هو ركن رئيسي من اركان الثوابت الفلسطينية التي يلتف الشعب الفلسطيني حوله، والذي فجر ثورته المسلحة عام 1965، وانشأ منظمة التحرير الفلسطينية لتحقيقه. وذلك قبل احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967. هذه الثوابت التي سَنَّها مئات الاف الشهداء بخط رسموه بدمهم الاحمر، والتي لن يسمح لاي من كان تجاوزها والتفريط بها. ان ما هو مطلوب من اية مفاوضات لتحقيق السلام العادل والدائم هو معالجة جذور العنف والصراع، ووضع آلية تعيد الحق لاصحابه، وتضع حق العودة موضع التطبيق، والاتفاق على سبل تنفيذه ضمن برنامج وزمن محدد ليجري بشكل سلس ومنظم. فصراعنا مع العدو الاسرائيلي هو صراع حقوق وليس صراع حدود.

لقد اوهم القادة الاسرائيليون انفسهم ان بامكانهم، من خلال العدوان وسياسة التوسع وسرقة الارض وقلب الحقائق واللعب على عامل الوقت وفرض الامر الواقع من جهة، وسياسة التطهير العنصري والاضطهاد والعقوبات الجماعية وخلق الصعوبات والحصار والخنق الاقتصادي وافقار الشعب الفلسطيني، ومن خلال التزييف والخداع والضغط والترهيب والترغيب، ان بامكانهم انهاك قوى الشعب الفلسطيني وابتزازه وارغامه على قبول التخلي عن حقه في العودة الى مدنه وقراه واملاكه التي طرد منها، مقابل وقف بعض من هذه الانتهاكات والجرائم ضده وتقديم بعض الفتات لتحسين وضعه المعيشي، والسماح له باقامة دويلة على جزء من اراضيه المحتلة عام 1967، ويعتقدون انهم بذلك سوف يتحايلون على الفلسطينيين والعرب والعالم، ويتم التوقيع على اتفاقية سلام تسقط حق العودة الخالد.

ومن جانب اخر، فقد استيقظت اسرائيل والمنظمة الصهيونية العالمية من غفوة طالت 65 عام واكتشفوا ان اليهود العرب هم لاجئون، متناسين كيف قاموا باقتلاعهم من اوطانهم ونقلهم الى اسرائيل بالكذب والاكراه والترغيب والارهاب، وارسال عملاء الموساد للقيام باعمال ارهابية والقاء القنابل على المعابد والمقاهي اليهودية وتوزيع المناشير المعادية لليهود لارغامهم على المغادرة، كما حصل في العراق وفي المغرب، وشن الحملات الدولية ضد دول مثل سورياوالاتحاد السوفييتي سابقا لارغامهم للسماح لمواطنيهم اليهود للمغادرة. من نافل القول ان المجتمع الدولي وهيئة الامم المتحدة لا تعترف بهذا الهراء والزيف الصهيوني بانهم لاجئون. ولكن السؤال هنا، هل هذا يعني ان اسرائيل والمنظمة الصهيونية كانت تريد ان يبقى اليهود العرب في اوطانهم، ولم تكن لتريدهم ان يرحلوا الى اسرائيل؟ ان اصرار اسرائيل على هذا الموضوع سوف يفتح ملف دور الموساد والمنظمات الارهابية الصهيونية ضد اليهود والهجرة اليهودية الى فلسطين للرأي العام العالمي.

ولكن وكما يقول المثل العربي، حساب القصر ليس مثل حساب البيدر، فحساب اسرائيل وامريكا واتباعهما ليس كحساب الشعب الفلسطيني المتمسك بحقوقه تمسكه بوجوده، مدعوما من قبل ملايين العرب والمسلمين واحرار العالم. فهو لن يتخلى ابدا عن حقه الانساني في العودة مهما طال الزمن ومهما كانت التضحيات والثمن، ومن يعتقد غير ذلك فهو واهم. فتاريخ الشعب الفلسطيني زاخر بالنضال ضد عشرات الغزوات الاستعمارية منذ الاف السنين، من العبرانيين واليونانيين والرومانيين الى الصليبيين والانكليز والصهاينة الحاليين، والتي ليست سوى صفحات سوداء في تاريخه الحافل. كما اثبت الفلسطينيون للعالم اجمع انهم وبعد 65 عاما من التطهيرالعرقي وابعادهم عن وطنهم وسرقة املاكهم، وبعد معاناة التشرد وآلامه، واكثر من مليون قتيل وجريح ومعاق، هم الان واجيالهم اكثر تمسكا بهذا الحق الشرعي من اي وقت مضى. فان سألت طفلا في اي مخيم في الضفة وغزة وفي دول اللجوء من اين انت يقول لك انه من حيفا، يافا، عكا او صفد. هذا الشعب الذي تتسابق اجياله في تفجير ثورات وانتفاضات تهب من الرماد، كطائر العنقاء الاسطوري، لتهز عرش المحتلين الطغاة، طلبا لحقوقها وكرامتها وحريتها، لن يخون نفسه ويتخلى عن حقوقه الانسانية.

ولكن الغريب والمهزلة هو ان الامريكان والاوروبيين والاسرائيليين الذين يدعون النباهة والذكاء وبعد 65 عاما من الصراع والحروب يبدو انهم لم يستخلصوا الدروس ويتعلموا شيئا بعد. ان من هو في مأزق هو اسرائيل، وليس الفلسطينيين. فلا جديد على معاناة الشعب الفلسطيني ان كان في الداخل، تحت الاحتلال أم في الشتات، الذي صبر وصابر عليها كل هذه السنين، فلماذا يتخلى عن حقوقه بعد كل هذا العناء. في المقابل فان اسرائيل رغم محاولاتها للمكابرة والتغطية على المأزق الكبير الذي هي به، تعلم علم اليقين ان عجلة التاريخ تسير بسرعة نحو انتهاء مشروعها الاستعماري العنصري كدولة صهيونية يهودية تدعي الديمقراطية.

لا يوجد امام اسرائيل الان سوى واحد من ثلاثة خيارات لا غير، فهي اما ان تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني وتتعايش معه في دولة واحدة ضمن نظام ديمقراطي يمنح المساواة في الحقوق والواجبات للجميع، وبذلك تُحَل جميع العقبات والصعاب ويحصل الجميع على ما يريدونه، ان كان في عودة اللاجئين الفلسطينيين، وبقاء المستوطنات والمستوطنين حيث هم، والتعويض للمتضررين، وتكون القدس عاصمة خالدة للجميع، او في قيام كونفدرالية بين دولتين، فلسطين واسرائيل، حسب قرار التقسيم 181، تكونا مفتوحتي الحدود والاقامة لمواطنيهما في نظامين برلمانيين يعطي الحق لليهود والعرب في كلا الدولتين لانتخاب ممثليهم البرلمانيين، او ان تصبح اسرائيل اكثر وضوحا للعالم في عنصريتها ضد الشعب العربي الفلسطيني، وتزيد من عزلتها وتعرضها للمقاطعة الدولية، وتسير على خطى دحر نظام الابارتهايد العنصري في جنوب افريقيا لينتهي المطاف باقامة الدولة الديمقراطية الواحدة لجميع المواطنين، كما هو الان في جنوب افريقيا. ان ما تدعيه اسرائيل بان عودة اللاجئين الفلسطينيين الى مدنهم هو تدمير لاسرائيل، هو في حقيقة الامر تدمير للعنصرية التي تتمثل بهذا الكيان، كما دمر كيان الابارتهايد العنصري في جنوب افريقيا، وليس تدميرا لليهود الذين تعايشنا معهم لمئات السنين، ففلسطين التاريخية تتسع للجميع.

القول الصحيح الذي كان على نتنياهو قوله هو ان الاتفاق يمكن ان يكون خلال ايام اذا تخلى وامثاله عن افكارهم العنصرية واعترفوا بالحقوق الشرعية للاجئين الفلسطينيين في العودة الى مدنهم واملاكهم وتم التعويض لهم والاعتذار عما اقترفوه من جرائم بحق الانسانية ضدهم.

لقد آن الأوان للقادة الاسرائيليين والامريكان والاوروبيين ان يتعاملوا مع الواقع وان يتوقفوا عن سياسة الوهم والخداع وتضليل الذات حول امكانية الالتفاف على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى مدنهم وقراهم وتحقيق السلام بدون الاعتراف بهذا الحق الخالد بخلود الشعب الفلسطيني. عليهم ان يوظفوا نباهتهم وذكاءهم وطاقاتهم بشكل ايجابي خلاق، هذا ان كانوا يريدون فعلا ان يعيش اليهود في المنطقة بأمن وسلام وتساو مع بقية شعوبها. فالسلام يتحقق فقط من خلال معالجة جذور الصراع والعنف وعدم الاستقرار، واحراز العدل الذي فيه مصلحتهم، كما هي مصلحة الشعب الفلسطيني ومصلحة العالم اجمع.

سفير فلسطيني سابق