الثلج وانفجار الشماس

بقلم: 

عاصفة الثلج التي تغلغلت الى نقي العظام في رام الله منذ أيام، حملتني الى تلك الذكرى البعيدة، التي لم تكن ذكرى عمليا، إلا بما هي رواية كانت أمي لا تمل من سردها علينا، حتى ليمكن القول ان تلك الذكرى - الرواية قد اسهمت في صياغة ذاكرتي البعيدة على نحو ما. تقول رواية أمي: اننا ارتحلنا ايام الكسرة - هكذا كانت تسمي النكبة، بفتح كاف الكسرة - الى قرية سورية يقطنها الشركس، اسمها عين زاط، أي عين النسر.. ولم تكن تلك الا محطة واصلنا بعدها «الهجيج» الى حمص، وبعد النوم اياما على بساط الجامع الكبير، اتيح لنا الانتقال الى ما سيصبح مخيم اللاجئين هناك، وكان المخيم اسمه الثكنة، نسبة الى ثكنة جيش كان يستخدمها الفرنسيون، وبعد النكبة سكن بعض الفلسطينيين فيها وكنا منهم. تواصل أمي روايتها، فتخبرنا عن كارثتين مريعتين كانتا في استقبالنا ونحن أشبه بالعراة الحفاة، اما الاولى فهي عاصفة ثلجية طويلة مخيفة اسماها الحمصيون سنة الثلجة، ويقال انه في اعقاب تلك الثلجة، ظل الرداء الابيض الصقيعي يغمر المدينة اياما ولم تكن قد توفرت للاجئين الا بعض الخيام القماشية التي لا تقي من ثلج او زمهرير.
وفي شهادة أمي أنني - وقد تجاوزت العامين بأيام - كنت ارتجف بعصبية توحي بأن أيامي معدودة، وان خالي - وكان شابا قويا - لم يتمالك ان يحتطب شجرة ضخمة ويشعلها على امل الا أموت من البرد، وثمة حكايات عن كبار في السن واطفال ذهبوا ضحية تلك الثلجة المجنونة.
أما الكارثة الثانية - ولا تزال أمي تروي بالتفصيل - فهي يوم دوى انفجار مريع ظن الناس في اثره ان الله قد اذن بقيام القيامة، فقد تطايرت الانقاض ومعها اشلاء بشرية، وساد رعب غير مسبوق الا بالعجز وقلة الحيلة وسرعان ما اعطى الناس لذلك الانفجار اسماً. انه انفجار الشماس، نسبة الى شركة الشماس التي تقع في مطلع شمال حمص، وقد وقع الانفجار الاسطوري فيها، حتى ان اهل حمص اخذوا يؤرخون لمدينتهم بما قبل انفجار الشماس وما بعد انفجار الشماس.
اما امي فكانت تواصل حديثها بهدوء: كنا لاجئين مقطوعين، لا شيء فوقنا ولا شيء تحتنا، والذي يغيب لا نضمن انه سيعود. وبين البرد المهلك والانفجار المروع، لم نكن نملك الا الصراخ والرجاء والاستغاثة، ثم اتفق لنا - تقصد افراد الاسرة - اننا بقينا احياء، فقد كان لنا هواء يجب ان نتنفسه وقطرة ماء لنشربها، واولاد لا بد لهم ان يكبروا، والله لا يضيع احداً.
كثيرا ما كنت استزيد أمي لتقص علي حادثة الانفجار، وكلما كبرت سألت عن مكاني ايام الانفجار، وكانت امي تقدم لي اجابتها الخالدة: كنت واخوتك في حشاشة روحي، وكنت من العناد بحيث اعي انني لن اموت قبل ان اوصلكم الى بر الامان، وها انتم شباب وصبايا والحمد لله على كل حال.
ستضمي بنا السنون بعد ذلك لنرى غير جائحة البرد المجنونة تلك، اياماً قائظة كانت تلصق خلالها اقدامنا بالاسفلت السائح من ضراوة الشمس، ولكن الهواء المقسوم لنا ظل ينتظرنا لنتنفسه وكذلك قطرات الماء. اما عواقب الانفجار فكانت الام الصابرة تعلق عليها قائلة: انكم مولودون في حياة ثانية بعد انفجار الشماس، واحيانا اكاد لا اصدق انكم احياء في حضني.
ولقد ظللت في حضنها - بمعنى رعايتها - حتى اشتعل الرأس شيباً، والغريب انها بعد ان غادرت دنيانا، ظلت ترعاني بطريقة ما، فكأن روحها ملاكي الحارس، لا سيما وأن اثر تربيتها المسيحية ظل عالقا بروحي حتى يوم الناس هذا، الا ان هذا موضوع آخر.
والآن حين يحتشد الثلج وذكريات الأم عن انفجار الشماس، اتساءل ببراءة: ما هي المعجزة التي اجترحناها حتى بقينا احياء؟ واذا كان الامر على رأي أمي يتعلق ببركة ستنا مريم وشفاعة سيدنا النبي، فان ذلك الرأي الحميم الحنون كان يغفل تلك الأم الخارقة التي لا تتحدث فيما يخصها، بل كانت تكتفي بطاقة من الحنان لو وزعتها على الدنيا لفاضت على اطفال البشرية أجمعين.
اما اليوم، وقد كبرنا، وتجاوزنا محنة سنة الثلجة وزميلاتها، فان سؤالا مشروعا ينبثق من صميم الندف الابيض المارد: ماذا عن الاطفال الذين لم تكن لهم أم كتلك الأم؟ ولا قطرة الماء المكتوب لهم ان يشربوها، او نسبة الهواء التي يجب ان يتنفسوها؟
لكننا عشنا، وكبرنا، وليس للحلم الا ان يعمل بجد واقتدار، حتى تتاح للاطفال جميعا تلك الام الفريدة، او مثيلة لها، اضافة الى العناد الفلسطيني المرتبط بالجينات، حتى لنقول: عشنا لأننا نستحق الحياة، وان من حقنا الحياة.. أفلا نهتبل هذه الفرصة؟

المصدر: 
الحياة الجديدة