المسيحية العربية الفلسطينية والقضية الفلسطينية

بقلم: 

 

للمسيحية الفلسطينية سمات وطنية وقومية مميزة لصلتها التاريخية بفلسطين قديماً وبمسار قضيتها، وبواقعها الحالي المعاش. وتستند الى عدة عوامل:
أولاً: كونها المسيحية الأولى التي ارتبطت بدعوة السيد المسيح مباشرة وبوطن السيد المسيح وبشعبه. وقد خاضت المسيحية الأولى معارك فرضت عليها منذ البداية من قبل اليهود وروما الوثنية. وسعى الطرفان لإصدار قرار روماني يقضي بحرمان المسيحية الوجود في فلسطين بنص قانوني واضح "لا يجوز للمسيحية أن توجد". فتحولت الى الدعوة السرية في نشر المسيحية، الى أن تنصرت "روما" وأتمت تصفيتها للمسيحية الفلسطينية مركزاً وخصائص.

ثانياً: ان تكونها التاريخي كان في عمق بلاد العرب لا في أطرافها، ولا في مراكز الامبراطورية الرومانية. وقد أعطاها ذلك "صفات الانتماء العربي"، حيث نما التيار الديني الزهدي والفكري المسيحي في صحراء النقب وفي صحراء الأردن.

ثالثاً: أما نضالها الذاتي ضد الهيمنة السياسية والرومانية فهو سابق للاسلام ومستمر بعده. بدأ ضد اليهود وروما، واستمر بالانشقاق المسيحي الى كنيسة شرقية وأخرى غربية تحت تأثير الاعتبارات القومية والحضارية. وتكرر ثانية خلال الحقبة الصليبية حيث أبعد رجال الدين المسيحيين العرب من مراكزهم وحلّ محلهم رجال دين مسيحيين قادمين مع الحملة الصليبية. وعادوا اليها بعد الانتصار العربي الاسلامي والمسيحي، كما عادوا اليها بعد الفتح الاسلامي من قبل.

لكن النضال الذي استمر طيلة ما يزيد على أربع مئة عام ضد هيمنة الكنيسة اليونانية "لغة وطقوساً ولاهوتاً غربياً ورئاسة"، والذي تحررت منه الكنيسة الأرثوذكسية في سوريا عام 1899 استمر لدى الكنيسة الأرثوذكسية الفلسطينية. وتطور هذا النضال المسيحي الفلسطيني لدرجة أن مفهوم "النهضة العربية" في فلسطين ارتبط "بحركة النهضة الأرثوذكسية العربية"، بدءاً بعام (1872) والمتجدد بعام (1908) بعودة الحياة الدستورية والبرلمانية نتيجة الانقلاب العثماني الاصلاحي.

وتحددت عناصر "النهضة العربية الأرثوذكسية" بمطالب "الاستقلال الكنسي"، و"تعريب الكنيسة لغة وجهازاً كنسياً"، و"ارتباط الكنيسة بالعشب" وخدمة قضاياه ومصالحه، و"الحق بانتخاب البطريرك والأساقفة مباشرة من قبل الشعب". لكن كل هذه الجهود باءت بالفشل برفض السلطة العثمانية لهذه المطالب لأسباب الصراع اليوناني والروسي كمركزين كنسيين متنافسين، كانت الدولة العثمانية تخشى الجارة روسيا أكثر مما تخشى اليونان المجاورة بسبب الوزن الاقليمي لكل منهما.

وطوال القرن التاسع عشر واجهت المسيحية الفلسطينية نشاطات استيطانية متعددة الأطراف. ففي منتصف القرن العشرين واجهت ما عرف "بالاستيطان المسيحي الأوروبي" تحت شعار "الحملة الصليبية السلمية". وهي حملة استيطانية سابقة للاستيطان اليهودي المنظم بقيادة "هرتزل" في نهاية القرن التاسع عشر. وكانت وراء هذه الحملة الاستيطانية الأوروبية كنائس بروستانتية ممثلة بدولتي ألمانيا وبريطانيا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر أقرت أوروبا "اعتبار فلسطين تحت السيادة الأوروبية المشتركة". وسبب ذلك الحيلولة دون تحول التنافس الغربي الى صراع. وتم الاتفاق على تشجيع الاستيطان اليهودي كحل بديل للتدخل المباشر من قبل الدول الأوروبية في شؤون المنطقة وكانت حصة بريطانيا هي الرئيسة.

كانت المسيحية الفلسطينية تدرك منذ البداية المخاطر على فلسطين من قبل تحالف الغرب والصهيونية. وعبّر عن هذا الوعي جيل بعد جيل من المثقفين والكتاب والسياسيين الفلسطينيين عن رفضهم للمشروع الصهيوني. ودعوا الشعب الفلسطيني والأمة العربية لمجابهة الخطر الصهويني. وقد وصل الأمر بانعقاد "المؤتمر العربي الأول" في "باريس" عام 1913 أن أرسل الشعب الفلسطيني وممثلوه عشرات البرقيات والرسائل تطالب المؤتمر بإصدار قرارات ضد الاستيطان اليهودي، وعدم الاكتفاء بمطالب الاصلاح العثماني. كان بعض هذه الرسائل يقول "ان الاستيطان اليهودي أخطر من التتريك" فالأول باقٍ لأمد طويل والثاني سيرحل حتماً. وليس غريباً إن قال وايزمن "ان الخطاب السياسي المعادي للصهوينية خطاب مسيحي عربي". ومن المعروف أن "المؤتمر العربي" في باريس لم يصدر أي قرار بخصوص فلسطين!.

الانتداب البريطاني والعزل السياسي للمسيحية

لقد حاولت بريطانيا إظهار الصراع حول فلسطين بأنه بين اليهود والمسلمين. وكانت تغيّب الأبعاد المسيحية للصراع. وقد خصّ "وعد بلفور" اليهود بفلسطين باعتبارها قومياً لليهود، واكتفى نص "وعد بلفور" بذكر العرب مسيحيين ومسلمين بأنهما طائفتان يجب مراعاة خصوصيتهما بالتمتع بالحقوق المدنية والدينية. وهذا ما أكدته وثيقة "صك الانتداب البريطاني". إلا أن تطبيق الادارة البريطانية لمضمون الوثيقة لم يمكّن المسيحية الفلسطينية من ممارسة حقوقها المدنية والدينية بشكل مستقل، كما حصل بالنسبة لليهود وللمسلمين. وقد حال هذا الاجراء البريطاني اللافت دون تطور المسيحية الفلسطينية كمؤسسة سياسية ودينية، مفسحة في المجال لتفكيك المجتمع المسيحي الفلسطيني ومؤسساته، بل وشراء أراضيه الخاصة، وأراضي المؤسسات المسيحية الدينية، التي يقع بعضها بقبضة كنائس غربية، كاليونانية على سبيل المثال.

وتكرر موقف الانتداب البريطاني مرات عدة بتجاهله لمقررات ومطالب "المؤتمرات الأرثوذكسية" الأول، والثاني، في عامي 1923 و1931. وكذلك بالنسبة "لمؤتمر الكهنة" عام 1932 ومقررات "مؤتمر الشباب العرب الأرثوذكس" عام 1932، بينما اعترفت بريطانيا "بالمجلس الاسلامي الأعلى" في عام 1921، و"بالمجلس الرباني اليهودي" أيضاً.
بناء لذلك لم يكن من المفارقة أن يتواجد المسيحيون الفلسطينيون داخل الجناح الرئيسي للحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة "الحاج أمين الحسيني". وأن يطلق عليهم تسمية "المجلسيين" نسبة الى "المجلس الاسلامي الأعلى"، والذين ارتضوا قيادة محتملة "بالحاج أمين الحسيني" قيادة لهم. هذا مع العلم ان الحركة الوطنية الفلسطينية حين شكلت بعد انعقاد "المؤتمر العربي الفلسطيني الأول" عام 1919 كانت مؤلفة مناصفة من ممثلي "اللجان المسيحية" واللجان الاسلامية". لكن بالمقابل، فإن واقع الجناح الاسلامي للحركة الوطنية الفلسطينية كان أقرب الى العلمانية والديمقراطية في طابعها المحلي المحافظ والعائلي. وأن هذا النهج كان معمولاً به من قبل القيادة حتى حين التقى بها وفد من "حركة الاخوان المسلمين" قادماً من مصر لإنشاء فرع للحركة كانت الملاحظات واضحة للوفد" عليكم في هذه الحال أن تراعوا خصائص العمل الوطني الفلسطيني بعيداً عن الاسلام السياسي".
وفي الحقيقة أيضاً كان الخط الثقافي لغالبية القيادات المسيحية الفلسطينية يؤمن عن قناعة، عبّرت عنها قبل انتمائهم للمجلس الاسلامي الأعلى بأنهم ينتمون الى الحضارة العربية الاسلامية. وكانت شهادتهم دائماً أمام اللجان الأوروبية تؤكد هذه الحقيقة من الالتزام كشركاء للقيادات الاسلامية. ويتضح من كل هذه المتابعة لهذا الجانب من واقع المسيحية الفلسطينية أن بريطانيا استطاعت أن تحذف مكوناً اجتماعياً ودينياً رئيسياً، اعترف به المجتمع العربي الاسلامي منذ بدء الحكم الاسلامي، دون أن تعترف هي به في فلسطين، لأن اليهودية لا تعترف بمسيحي يتمتع بسلطة في فلسطين.. ولو بسلطة حكم ذاتي!

المصدر: 
المستقبل