السياسة الأميركية: عثرات في الشرق الأوسط

بقلم: 

تُجمع كافة الانتقادات التي يكيلها الخصوم لسياسة أوباما إزاء ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط على أن الرئيس ما فتىء يرسل كل أنواع الإشارات الخاطئة إلى أصدقاء وحلفاء أميركا هناك، وهم الذين باتوا يشعرون بالقلق من شكهم في استدامة الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة. ولا يتوقف هؤلاء عن الشكوى من ضعف ردة فعل أوباما من استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، ومن رغبته في الحوار مع إيران من دون أن تبدي أي تغير ذي مغزى في سياستها النووية، ومن سياسته الحائرة إزاء الحرب الأهلية في ليبيا، وفشله في تحقيق أي تقدم في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. وهناك أيضاً الخوف من أن يؤدي السأم الأميركي من الحروب، وعملية إعادة هيكلة الأصول العسكرية الأميركية في آسيا، والتطور المتزايد في إنتاج الولايات المتحدة من الوقود الأحفوري المحلي، إلى إضعاف علاقة الولايات المتحدة مع دول الشرق الأوسط وتراجع القوة الرادعة للولايات المتحدة والتي تؤدي دورها في منع انتشار الأسلحة النووية والحروب الإقليمية.

وفيما يبدو وكأن هناك بعض العناصر المطابقة للواقع في هذه المواقف، إلا أن الحقيقة المؤكدة تفيد بأن الولايات المتحدة يجب أن تتجنب فكرة التخلي عن التزاماتها ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط في المستقبل المنظور على أقل تقدير. ويقتضي الأمر أن يتفهم الأميركيون عدة دواعٍ وأسباب يمكنها أن تفسر الخطر الكبير الكامن وراء إخضاع سياستهم في المنطقة إلى تغير جوهري. ويكمن أولها في أن الالتزام بأمن إسرائيل يحظى بدعم قوي من الكونجرس، وبأن الدول الشرق أوسطية الحليفة للولايات المتحدة قد تتضرر لو عمدت إلى التخلي عن دعمها القوي. وهذا يعني أنه لا يمكن للرئيس الأميركي ولا للكونجرس تجاهل خطر التهديدات العسكرية والإرهابية ضد الشركاء الإقليميين. والشيء المهم الذي تغيّر بالفعل هو ميل الأميركيين لتجنب إرسال أعداد كبيرة من قوات «المارينز» لخوض حروب جديدة في الشرق الأوسط. ويمكن القول هنا إن المتاعب الكبرى التي واجهتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق كان لها أثر سلبي هائل على الرأي العام الأميركي. ولم تعد الولايات المتحدة تشعر بأي شهية لخوض الحروب والمعارك الدامية على الأرض، ولكنّها ما زالت تحتفظ بأصول عسكرية هائلة في الجو والبحر في منطقة الشرق الأوسط. وليس من المتوقع أن يتم اتخاذ قرار بتحريك هذه الأصول في المدى المنظور.
ويتعلق ثاني هذه الأسباب بقضية استدامة مصادر التموين بالطاقة وأهمية منطقة الشرق الأوسط في هذا المجال. وبغض النظر عن مقدار ما تنتجه الولايات المتحدة من النفط والغاز من مخزونها المحلي، فإن الطلب العالمي على هذه الأنواع من الوقود الأحفوري ما زال يسجل نمواً مطرداً. وفيما يتعلق بالنفط الخام الذي تمكن من الاحتفاظ بأسعاره المرتفعة، فإن أي انخفاض في تموين السوق من مصادره في الشرق الأوسط سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار المشتقات النفطية بشكل كبير بالنسية للمستهلكين الأميركيين.

ويكمن أحد أكثر أسباب تغير سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط قوّةً، في أنها تقترب بسرعة من أن تعتمد بشكل كلي على إنتاجها المحلي من أنواع الوقود الأحفوري بسبب نجاح التقنيين والمهندسين في ابتداع تكنولوجيات جديدة لاستخراج الغاز الطبيعي والنفط، وخاصة منها تكنولوجيا الحفر الدقيق الأفقي وتقنية التكسير الهيدروليكي للصخور الحاوية على مكامن الغاز الطبيعي. ولقد تجاوز إنتاج الولايات المتحدة من الوقود الأحفوري في الفترة الأخيرة كل التوقعات، ومن المنتظر أن تصبح قريباً من الدول المصدرة للغاز للطبيعي. إلا أنها ما زالت تستورد من النفط أكثر من أية دولة صناعية أخرى، رغم أن الصين تقترب بسرعة من مرحلة انتزاع هذا الشرف منها. ومما يسوّغ هذا الاعتقاد هو أن الطلب المسجل في الولايات المتحدة على النفط يتراجع بشكل كبير بسبب القوانين الجديدة التي تُلزم صناعة محركات السيارات ذات الاحتراق الداخلي بزيادة فعالية احتراق الوقود، بمعنى أن يتم تصميمها بحيث تحرق أقل كمية من الوقود لقطع أطول مسافة ممكنة. ورافق هذا التطور تقدم جديد في مجال استخدام الغاز الطبيعي وخلايا الوقود في دفع حافلات الركاب وحتى الشاحنات. ولا ننسى التزايد المتواصل في استخدام الوقود الحيوي كبديل للمشتقات النفطية. ويضاف إلى كل ذلك ما أشارت إليه الإحصائيات الحديثة من انخفاض محسوس في الطلب على السيارات ضمن شريحة الشباب صغار العمر في الولايات المتحدة والذين يفضلون الحياة في المدن والتنقل السهل باستخدام وسائل النقل العمومية التي ما فتئت تزداد تطوراً يوماً بعد آخر. كما أن هناك أعداداً متزايدة من أصدقاء البيئة الذين يفضلون استخدام الدراجات الهوائية في تنقلاتهم لمسافات قصيرة داخل المدن لاعتقادهم بأن ذلك يخفض من مستويات التلوّث ويقلل من كمية غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يعد السبب الرئيسي لاحترار جو الأرض. وتتضافر كل هذه الأسباب لتساهم في تخفيض الطلب على النفط ومشتقاته المستوردة. إلا أن الولايات المتحدة سوف تبقى بحاجة ماسة لاستيراد النفط في المستقبل المنظور.

وخلال السنوات المقبلة، سوف يؤدي توازن أسواق الطاقة في العالم إلى تغيّر ذي تداعيات سلبية على دول منطقة الشرق الأوسط. لكن، ونظراً لأن المنطقة تستأثر بمخزونات هائلة من النفط والغاز من التي يمكن استخراجها وتوزيعها في الأسواق العالمية بسهولة فائقة وبأسعار معقولة، فإن هذه الموارد سوف تواصل الاحتفاظ بمكانتها كعامل مهم في التخطيط الاستراتيجي للولايات المتحدة. وطالما أنه لا توجد قوة خارجية يمكنها أن تنافس الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، فدعنا نأمل على أقل تقدير في أن تلعب دور «الشرطي الإقليمي». وسوف يمثل هذا الدور أولوية أميركية حتى لو انحسر مستوى الوجود العسكري والسياسي الأميركي هناك.
 

المصدر: 
الاتحاد