مناورات ومفاوضات ومساومات!

بقلم: 

 

فتح الاتفاق الإيراني مع مجموعة «5+1»، التي تضم الدول الخمس الدائمة العضوية بالإضافة إلى ألمانيا، الباب لتكهنات كثيرة، ليس فقط بالشرق الأوسط، وإنما أيضا بالعالم. فأن تتفق الدول الخمس الدائمة العضوية على أن تكون طرفا واحدا في مفاوضات تمثل تطورا جديدا في العلاقات الدولية أمر لا يمكن تجاهله، خاصة أنه يأتي في أعقاب تفاهم أميركي - روسي على التعامل مع الأزمة السورية من خلال نزع السلاح الكيماوي السوري. كيف حدث ذلك في وقت ساد فيه الحديث عن الحرب الباردة الجديدة، وجرت الاحتفالات في القاهرة وغيرها من العواصم العربية بالعودة الروسية إلى القيادة العالمية؟ وإذا كانت الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن قد تذكرت فجأة دورها في حماية الأمن والسلم الدوليين، فما هو دخل ألمانيا في الموضوع، إلا إذا كان المسرح الدولي قد بدأ في التغير بالفعل، وكانت ألمانيا تدخل بابا خلفيا للدول الدائمة العضوية من دون صداع إجراء تغييرات جذرية في تركيبة مجلس الأمن؟ فمن المؤكد أنه لم يكن ممكنا تجاهل ألمانيا التي باتت زعيمة أوروبا ومنقذتها من الأزمة المالية، وهي الدولة الكبرى التي خرجت من الأزمة العالمية المالية من دون أن يصيبها خدش يذكر. إلى أين يقودنا هذا في عملية إصلاح الأمم المتحدة، والحقائق الواقعية يجري بناؤها خارجها؟!

الاتفاق الإيراني مع جماعة الدول الست يبقي اتفاقا مؤقتا مداه ستة شهور، وتحديد المدى الزمني يشير من ناحية إلى درجة من التقارب في المفاهيم الأساسية تجعل من الممكن إنجاز اتفاق شامل يسوي الكثير من الأمور النووية وربما ما هو أكثر أيضا من أمور إقليمية. ولكن من ناحية أخرى، فإن تحديد الزمن فيه نوع من التهديد، لأن عدم الاتفاق الشامل سوف يعني العودة إلى حالة التوتر مرة أخرى، والتساؤل حول إمكانية ضرب إيران مرة أخرى. الإغراء الظاهر، والوعيد الكامن، كلاهما فيه وعد التحرك السياسي والدبلوماسي إلى الأمام، واستشفاف صيغة تجعل الطرفين راضيين عما جرى التوصل إليه. لاحظ هنا كيف أعلن كلا الطرفين نتائج الاتفاق بحيث بدا وكأنه انتصار دبلوماسي محقق، حتى إن إيران استقبلت وفدها العائد من جنيف استقبال المنتصرين، بعد أن ركزت على استمرار نشاطها النووي، بل والتأكيد على حقها في تخصيب اليورانيوم الذي لا تحرمها منه معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. فإذا كان التقدير أن إيران لم تكن تنوي إنتاج أسلحة نووية، فلماذا قامت برفع درجة التخصيب إلى 20 في المائة، وهي نسبة لا تحتاجها في أي برنامج نووي سلمي؟ لم يكن ذلك هو ما تعتقده مجموعة «الست» على أي حال، خاصة الولايات المتحدة التي أعلن كيري عن انتصارها بعد أن وضع سقفا للنمو النووي الإيراني من خلال وقف العمل في مفاعل «آراك»، وتحديد نسبة التخصيب بما لا يزيد على 3.5 في المائة، وتخفيض ما زاد على ذلك إلى النسبة نفسها. كل الأطراف أعلنت انتصارها إذن استنادا إلى مرجعيتها المعلنة عما إذا كان البرنامج النووي الإيراني برنامجا سلميا، أو أنه في جوهره عسكري يبغي الحصول على الأسلحة النووية.

ولكن أيا كان التقدير، فإن ما لدينا هو اتفاق مؤقت، ومثل كل الاتفاقات المؤقتة فهو إما أن يكون سبيلا لكسب الوقت، أو أنه يكون مقدمة لاتفاق أكبر. ترجح كثرة من المراقبين أن الاحتمال الثاني أقرب إلى التحقق، وأن ما لدينا هو محاولة لإعادة ترتيب الشرق الأوسط بطريقة جديدة تختلف جذريا عن تلك التي حاولتها من قبل الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والتي بعدها قامت واشنطن بغزو أفغانستان والعراق. الترتيب بدا ضروريا في ضوء ثلاثة أخطار ماثلة: خطر توصل إيران إلى السلاح النووي، وهو ما يعني حتمية قيام إسرائيل وحدها أو بالتعاون مع الولايات المتحدة بضرب إيران، وهو ما يفتح أبواب جهنم في المنطقة، فالكل يعرف كيف يمكن أن يبدأ حربا، لكنه لن يعرف أبدا كيف ستنتهي. خطر آخر هو تصاعد حالة التطرف الديني في المنطقة، وما أدت إليه ثورات «الربيع العربي» من استيلاء جماعة الإخوان المسلمين، بالتحالف مع جماعات متطرفة وإرهابية أخرى، على عدد من الدول العربية. خطر ثالث هو تزايد احتمالات الفوضى في المنطقة حيث ظهرت بقوة في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وتهدد لبنان والسودان، بعد أن تمكنت من الصومال قبلها. لا النظام الدولي ولا الإقليمي يتحمل مثل هذه الفوضى، ومن ثم كانت الحاجة إلى إعادة الترتيب عن طريق خطوات متدرجة ومؤقتة في سوريا ومع إيران، لكنها تكفي لوضع بذور الثقة بين أطراف لا تثق ببعضها بينما تجمعها مصلحة مواجهة أخطار تهددها جميعا.

ولكن بينما تنتظر هذه الخطوات المتدرجة والمؤقتة الاكتمال، فإنها في حد ذاتها تضع المنطقة كلها في حالة نفسية وموضوعية جديدة، ربما تسمح بخلق مناخ موات لمفاوضات ناجحة في ما يخص الصراع العربي - الإسرائيلي. هنا فإن المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بالفعل بدأت، ولكن لا توجد لدينا إلا شكوى كلا الطرفين من عدم تجاوب الطرف الآخر مع مطالبه. الشكوى منطقية، وعادية، وجزء من لعبة المفاوضات، وربما لملء فراغ، لأن الولايات المتحدة كانت منشغلة بمفاوضات أخرى. ولكن العلامات والشواهد تشير إلا أن أمرا ما يجري العمل على إنضاجه. من الناحية الموضوعية، فإن توازن القوى في المنطقة تغير بشدة نتيجة اتفاق نزع السلاح الكيماوي السوري، والاتفاق مع إيران على وضع سقف لبرنامجها النووي. فمهما كان الضجيج الإسرائيلي الرافض للاتفاق الإيراني، فإن وضعها الأمني من الناحية الاستراتيجية قد تغير لصالحها بشكل أساسي. الضجيج بلا شك له فائدة من زاوية الضغط على إيران عندما تجري المفاوضات على تسوية شاملة ربما تكون إقليمية، بالإضافة إلى طابعها النووي. وفي الواقع فإن إصرار إسرائيل على الوجود في غور الأردن لم يعد له ما يبرره كمطلب إسرائيلي في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية. كما أن الضربة المصرية لحركة الإخوان المسلمين تمثل بداية النهاية لتجمع الإرهاب في سيناء، وأيضا بالنسبة لحركة حماس الفلسطينية، ومن ثم فإن الدولة الفلسطينية المنتظرة لن تكون لديها صبغة متطرفة وإرهابية.

البيئة تغيرت إذن، ولم يحدث أن كانت هناك مفاوضات فلسطينية إسرائيلية خالية من التسريبات، وهذه علامة إيجابية. كما أن استدعاء ديفيد مايكوفيسكي من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى وفد التفاوض الأميركي بقيادة مارتن إنديك، وهو المتخصص في قضية الحدود الفلسطينية - الإسرائيلية، ربما يشير إلى أن ما يجري فعليا أكثر إيجابية مما هو معلن. وما علينا إلا أن ننتظر ونرى إلى أين تنتهي محاولة إعادة الترتيب في منطقة معتادة على المفاجآت.

 

 

المصدر: 
الشرق الأوسط