أملاك اللاجئين الفلسطينيين لا عودة ولا تعويض

بقلم: 

يتناول الكتاب أحد أخطر نتائج قيام دولة إسرائيل في العام 1948 على القوة والعنف والحرب، اذ ترافق نزوح بعض السكان وتهجير أكثريتهم قسراً، مع الإستيلاء على الأراضي في شكل واسع، فأنشئ الكيان العبري على ما نسبته 77 في المئة من مساحة فلسطين الإنتدابية، علماً أن ملكية اليهود لم تتجاوز 6,59 في المئة من الأراضي. وعلى الرغم من حضور مسألة الأملاك في قلب المساعي الجارية لحل النزاع العربي الإسرائيلي والنص على التعويض على السكان، إلا أن تقدماً لم يتحقق في هذا الشأن. ويستند المؤرخ الأميركي والمدرس في كلية راندولف ماكون في ولاية فرجينيا، في عمله البحثي الواسع الى مصادر أرشيفية هائلة من القدس ولندن ونيوورك وعمان وبيروت.

يصنف فيشباخ اللاجئين بحسب إنتماءاتهم الطبقية ليتوصل الى أن الفلاحين هم الأكثر تضرراً بسبب فقد الأرض، مصدر الرزق والعمل، وتراوح عدد القرى المهجورة وفاقاً للدراسات الجديّة بين 396 و418 قرية. ويستشف من بعض المصادر الصهيونية وجود خطة منظمة لترحيل الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم، وبالتالي إسكان اليهود مكانهم، وبحلول شباط/فبراير 1950 تم منح 15,000 شخص مساكن في قرى فلسطينية مهجورة. والسيطرة التي بدأت إرتجالية أخذت لاحقاً شكلاً رسمياً من خلال المؤسسات والهيئات والقوانين، فصدر عام 1948 قانون "الأملاك المتروكة"، وهدفه تنظيم سيطرة الدولة على الأملاك، وصدر عام 1949 قانون"أنظمة الطوارئ" (استغلال الأراضي المبورة)، والأكثر تأثيراً كان القانون الخاص بأموال الغائبين (1948)، والذي صُدق في الكنيست عام 1950، وقصد فيه أي شخص غادر مكان سكنه الى أي جزء من فلسطين يقع تحت سيطرة "العدو"، أو كان غادره قبل أيلول/سبتمبر 1948 الى مكان خارج فلسطين، ووضع لتنفيذه مسؤول أطلق عليه "القيّم على أموال الغائبين"، وثمة قانون استملاك الأراضي. ويشرح الباحث سياسات هذا القيّم خلال الفترة 1948-1953، والتي تراوحت بين وضع اليد على الأموال والأصول والودائع وبيع الأراضي الى يهود وتأجيرها. وبحلول العام 1952 كان لدى القيّم ما مجموعه 39,627 مبنى تحت سيطرته، تحتوي على 65,429 غرفة و7880 مؤسسة تجارية. ويقول فيشباخ إن أول تقديرات الأملاك وضعتها لجنة إسرائيلية شكلها بن غوريون عام 1948، حملت اسم "لجنة فايتس وانين ليفشتس" وذلك "للنظر في قضية الأملاك المهجورة في سيّاق إعادة توطين اللاجئين". وفي توصيفها لحال الخراب الذي حل باقتصاد المزارعين العرب، تشدد اللجنة على مصادرة الأرض وأن "حكومة إسرائيل تستطيع أن تحاج في شأن مصادرتها هذه الأرض بصفتها أملاكاً للأعداء الذين قاتلوا ضدنا"، ووضعت اللجنة تقديراً لقيمة الأملاك المصادرة، وقدرت "أن القيّمة التي أعطتها للأملاك منصفة". وبحسب القانون قام "القيّم" ببيع أراضي اللاجئين لسلطة التطوير المنشأة عام 1950، والى الصندوق القومي اليهودي الذي بادر فوراً الى بناء المستوطنات وبناء المساكن العامة وإقامة المشاريع الزراعية، وبحلول العام 1958 كان قد "تم تحويل كل الأرض اليه تقريباً".

لقد حظي مصير اللاجئين وأملاكهم باهتمام الأمم المتحدة صاحبة قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، تحت الرقم 181 (الدورة الثانية)، فعيّنت الوسيط الدولي برنادوت، الذي كتب في تقريره العام 1948:" ...وتقع على حكومة إسرائيل المؤقتة مسؤولية إعادة الأملاك الخاصة الى ملاكها العرب، وتعويض تلك التي دمرت بطريق تعسفية، وهي مسؤولية واضحة و جليّة بغض النظر عن أي تعويضات قد تطلبها الحكومة المؤقتة من الدول العربية"، وكذلك دعا التقرير الى "دفع تعويض واف لأولئك الذين يختارون عدم العودة الى بيوتهم"، ودعا أخيراً الأمم المتحدة لإنشاء " لجنة توفيق " تتولى عملية الوساطة بين العرب وإسرائيل. وفي 17 أيلول 1948، اليوم التالي لتوقيع برنادوت تقريره، قُتِل في القدس على يد مجموعة يهودية. وحين أعلن القرار الأممي الشهير 194 في العام 1948 الخاص بعودة اللاجئين والتعويض عليهم، أعلن عن قيام "لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة والخاصة بفلسطين"، وانتهى عمل اللجنة بعد عدة مؤتمرات الى الفشل لأسباب كثيرة، منها الموقف الإسرائيلي الذي يريد مناقشة المسألة من ضمن محادثات سلام أوسع ويربط التعويض بالتوطين، وتشكلت من بعد ذلك "بعثة كلاب" (Clapp Mission) التي تبنت هذا الربط. وقد سعت لجنة التوفيق لتحديد قيمة أراضي اللاجئين والبحث عن آليات للتعويض، ورغم عملها الدؤوب ومؤتمر باريس في العام 1951 لتقريب وجهات النظر وتقديم أرقام محددة للتعويضات، إلا أن عملها لم يثمر، وأشر ذلك الى انتهاء حقبة من عمل لجنة التوفيق.
في مقاربته "السياسات الإسرائيلية المبكرة تجاه مسألة الأملاك" وجد فيشباخ إن تل أبيب فضلت دوماً المفاوضات المباشرة مع أطراف النزاع بديلاً من الهيئات الوسيطة، ولا سيّما أنها بهذه الطريقة تستطيع إثارة أكثر من قضية. ومثال ذلك المحادثات السريّة مع الأردن في شأن التعويضات والتي انتهت مع اغتيال الملك عبدالله على يد فلسطيني في تموز/يوليو 1951. وفي عام 1949 تشكلت لجنة برئاسة زلمان ليف أطلق عليها "لجنة فحص مسألة التعويض عن أملاك الغائبين"، والنتيجة أن قضية أراضي اللاجئين تحولت الى "مسألة نزع ملكية وتعويض"، وأصدرت اللجنة تقريرها في العام 1950 معبراً عن تشدد إسرائيل بإزاء أصحاب القضية وقدمت اقتراحات كثيرة، ووضعت الدولة الصهيونية عدداً من المطالب المضادة تتصل بالأملاك اليهودية في البلدان العربية والمتروكة قبل حرب العام 1948 وبعدها أيضاً. وفي عام 1953 قررت إسرائيل إجراء دراسة جديدة عهدت بها الى دايفيد هوروفيتس للبحث في مسألة اللاجئين العرب واقتراح حلول، والثابت عندها "إن اللاجئين هربوا من تلقاء أنفسهم، وإن الدول العربية كانت مسؤولة كلياً عن هروبهم بسبب هجومها على إسرائيل"، والحل هو في التوطين، ولا يمكن تل أبيب وحدها تحمل عبء التعويض الفردي. ويشير الباحث، المختص بقضايا الشرق الأوسط، الى جهود إسرائيلية سرية حثيثة لتعويض لاجئين أفراد بذلت في ستينات القرن المنصرم لشراء أراضيهم.
وكان للعرب من جهتهم سياستهم الخاصة بإزاء مسألة الأملاك، ففي اجتماع جامعة الدول العربية في الأسكندرية في آب / أغسطس 1950 جرى تقدير قيمة الممتلكات، كما كان للأونرا أيضاً تقديراتها، وتواصلت الجهود الدولية والعربية لحل المسألة ظناً أن ذلك يُساهم في "استقرار المنطقة". وقد دخلت هذه القضية في مسار آخر بعد حرب العام 1967 وحرب السويس في العام 1956، بمعنى قلة الإهتمام بها والتركيز على "التعويض" فحسب. وفي الستينات من القرن المنصرم طرح العرب فكرة تعيين "قيّم" على الأملاك، جابهتها إسرائيل بالرفض وساندتها واشنطن في ذلك، خوفاً من العودة الى التفكير في " إعادة الأملاك لا التعويض عنها". وعادت لجنة التوفيق الى حصر عملها (1952 1964) في "الجانب الفني" لجهة تقدير الخسائر في أملاك اللاجئين، واعتبر فيشباخ إن أرقامها بقيت الأكثر دقة. وبحلول العام 1960 أنجزت إحصاء بمقدار الأراضي وقيمتها التي كان يملكها العرب الذين غادروا إسرائيل، وبلغ مجموع هذه الأراضي باسثناء بئر السبع 7,874,419 دونماً، أما أرقام لواء بئر السبع: ففئتين: أراض عربية (12,445,000 دونماً) وأراض أصغر مساحة هي أملاك عربية فردية (64,000 دونم).
والحال، قامت لجنة التوفيق في العام 1961 بمعاودة نشاطها، فأوفدت في العام 1961 "بعثة جونسون" التي قدمت في العام 1962 خطة حول التعويضات تضمنت ست قواعد: قيمة الأرض في الفترة 1947-1948، وقيمة الأموال المنقولة المتروكة، ودفع مبالغ نقدية تسوية عن خسارة الفائدة على أراضي اللاجئين، واحتساب الإنخفاض في قيمة العملة الشرائية، والتعويض عن خسارة الأملاك العامة الإنتدابية، والتوصية بتقديم 250 دولاراً بدل"إعادة إدماج" لكل لاجئ. وقدرت اللجنة أن التعويضات تتطلب ما يعادل 1,377,456,000 دولار أميركي، وطريقة الدفع تتم عبر صندوق تنشئه الجمعية العامة، وكان الفشل من نصيب هذه الخطة وخطة جرفيس أيضاً، ما عنى النهاية الفعلية للجنة التوفيق في العام 1966.
وأتت حرب العام 1967 لتضع مسألة أملاك اللاجئين في مرتبة ثانوية، ولتعطي الصراع بُعداً عسكرياً بين إسرائيل والعرب قاطبة إثر احتلال أراض جديدة. ورغم انتهاء محادثات السلام الى توقيع معاهدة كامب دايفيد مع مصر (1979)، إلا أن مطالب اللاجئين بقيت من دون حل، أما الأردن الذي وقع في العام 1994 فقد أثار قضية أملاك مواطنيه في فلسطين قبل العام 1948. وأدت أيضاً مفاوضات السلام مع الفلسطينيين في العام 1993 الى طرح مسألة الأملاك من دون نتائج فعلية، ولا سيّما بعد إنهيار إطار أوسلو في العام 2002. ويخلص فيشباخ الى القول إنه "بعد خمسة عقود من التهجير، لم يعد اللاجئون وذرياتهم الى أراضيهم، ولم يستعيدوها من طريق عملية إستعادة الأملاك، ولم يعوّضوا عنها".

[ الكتاب: سجلات السلب، أملاك اللاجئين الفلسطينيين والصراع العربي الإسرائيلي
[ الكاتب: مايكل ر. فيشباخ
[ الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2013