ذلك اليوم الاستثنائي

بقلم: 

«لا تقسيم ولا توطين..» بهذا الشعار الحاسم المتوتر، كانت حناجرنا الصغيرة النحيلة تصدح وتملأ الشوارع صراخا، طيلة السنوات العشر التي تلت نكبة فلسطين. وما كان لاعمارنا الغضة آنذاك، ان تستوعب من الشعار الا ان اللاجئين يرفضون ما رسمته لهم دوائر الاستعمار والصهيونية. وكان علينا ان نمضي قدما في العمر والوعي حتى ندرك خطورة ما نذهب اليه. ولا سيما بعد ان عرفنا ان بعض القوى الوطنية، الاحزاب الشيوعية العربية مثلا، لا توافق على هذا الشعار كاملا. فما لا شك فيه ان التوطين كان مرفوضا، ولا خلاف بين الفلسطينيين على رفضه، لاننا لو رضينا، لا سمح الله بذلك، لوافقنا على نتائج النكبة التي يريد لنا صانعوها ان نبحث عن وطن آخر غير فلسطين. الا ان هذا كلام غير كامل، فالفلسطينيون يرفضون استيطانا دائما خارج وطنهم، اما التقسيم الذي صدر القرار الدولي فيه قبل ستة وستين عاما فلم يكن مرفوضا من الجميع، اذ ان الشيوعيين - وهم قلائل نسبيا - قد اعتبروه مكسبا يوفر لنا وطنا قد لا نحصل عليه بسهولة، بل لا بد لتحقيقه من نضال وتضحيات، لكن التيار الشعبي الجارف بقيادة بقايا الهيئة العربية العليا التي يتزعمها الحاج امين الحسيني، رفض ذلك القرار واعتبره انتقاصا من حقنا التاريخي في الوطن الممتد من البحر الى النهر، والبحر قبل النهر، بمعنى المطالبة حتى بالارض التي خصصها قرار التقسيم لدولة الاحتلال.

وهكذا كان التاسع والعشرون من تشرين الثاني - نوفمبر - يوما اشكاليا، فهو اليوم الذي شهد قرار التقسيم المختلف عليه. الا ان المختلفين على هذا القرار، كانوا مجمعين على مبدأ قيام الكيان الفلسطيني. وهو الامر الذي جعل من السهل، بل من المطلوب اعتبار هذا اليوم التاريخي يوما عالميا للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني، حتى اذا ظهرت التفاصيل ظهرت عناصر الاختلاف، بين من يرى الوطن الفلسطيني كاملا هو حق الشعب الفلسطيني. وبين من يرى ان ما اعطانا اياه قرار التقسيم كافيا لنطالب بكياننا المستقل.
ولان الحصول حتى على هذا الذي خصصه لنا القرار، كان امرا صعبا وبعيد المنال، فقد تأجلت الخلافات الداخلية الفلسطينية، لصالح العمل على تحقيق الكيان الوطني اولا، ثم نختلف او نتفق على الحدود والمحددات.

هكذا اصبح التاسع والعشرون من الشهر الحادي عشر، موضوع مفارقة وطنية مريرة، فمن يتمسك بشعار الوطن الكامل من البحر الى النهر، يجد نفسه حليفا موضوعيا لمن يرضى ببعض فلسطين التاريخية حسب قرار التقسيم. على ان هذا الحلف الاضطراري لا يلغي سؤالا كبيرا معلقا حول حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، فحتى عتاة الداعين الى التقسيم او القابلين به، ما كانوا ليتنازلوا عن حقهم الشخصي في العودة الى ديارهم المحتلة، اما كيف وبأي الوسائل وتحت اي شعار، فهذه اسئلة مركبة لا تنتهي الا بوضع النقطة الاخيرة على السطر الاخير في ملف القضية الفلسطينية.

ثم سرعان ما دخل عنصر خطير على المعادلة، هو القسم الفلسطيني الذي ظل تحت الاحتلال منذ النكبة، فما سيكون مصير هؤلاء في حال انجاز معجزة حل القضية الفلسطينية، وبخاصة ان هؤلاء ليسوا وحدهم في الوضع المعلق، فهناك ايضا جموع اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من اراضيهم غداة النكبة، وهؤلاء يريدون - ومن حقهم الطبيعي ذاك - ان يعودوا الى بيوتهم الاولى، مع ان بعض تلك البيوت - وهي كثيرة جدا - مشمولة بما سيكون في يد الصهاينة لو تحقق التقسيم.

اذا رفع بعض التوفيقيين شعارا من نوع: «انه صراع بين حقين» انطلاقا من موافقة ضمنية على حق للصهاينة في بعض فلسطين، فإن اصحاب الارض الحقيقيين وجدوا انفسهم في صراع بين مظلمتين: المظلمة الاولى انهم مهاجرون وما على العالم الا ان يوفر لهم شروط الراحة حيث هم لاجئون، والمظلمة الثانية ان لهؤلاء اللاجئين «بعض» الحق في بعض الارض، وعليهم ان يضحكوا في عبهم اذا حصلوا على هذا القليل..

اما الصراع التاريخي فليس له الا ان يستمر على المدى المنظور، ذلك ان المحتل متشبث بما احتل، وعينه على كثير من القليل الذي بقي لدى الفلسطينيين، اما الراديكاليون الفلسطينيون - والشعب العربي الفلسطيني بمعظمه راديكالي بحكم تجربته المرة ومحنته الوطنية - فهم يريدون بلادهم كلها لا مزيد.. وهات دبرها.
ان العبرة من هذا اليوم الاستثنائي تستبعد اي حل كامل للقضية، فلا بد من ادارة الصراع بأشكال مختلفة، في زمن لسنا فيه وحدنا، ولا بد من ادامة الصداع بمعنى الصراع التاريخي حتى يبين الخيط الابيض من الخيط الاسود، وقديما قال آباؤنا وامهاتنا تلك الحكمة العابرة للزمن: ما ضاع حق وراءه مطالب.. والى ان يتحقق هذا الحق، يظل من واجب الفلسطيني ان ينادي باستعادة الارض والعودة اليها.

 

المصدر: 
السفير