إسقاط برافر: الشباب يتقدمون المواجهة

بقلم: 

للمرة الثالثة خلال 5 أشهر، ينتفض النقب معلناً عن "غضبه" في وجه الاحتلال الإسرائيلي، للاحتجاج على قانون برافر، الذي أقره الكنيست الإسرائيلي  بالقراءة الأولى في حزيران/يونيو الماضي والهادف إلى مصادرة 800 ألف دونم لفلسطينيي النقب وتهجير عشرات الالاف من الفلسطينيين.

 لكن "غضبةَ" أهل النقب، السبت، كانت مختلفة عما سبقها. وبينما اقتصرت المشاركة في الاضراب الأول على أهالي النقب، وشارك الفلسطينيون على امتداد مناطق فلسطين في يوم الغضب الثاني، جاءت المشاركة في يوم الغضب الثالث أوسع نطاقاً، وأشد زخماً مجمعة على أن "برافر لن يمر".

 الشباب والأطفال كانوا الحاضر الأكبر، أشعلوا التظاهرة غضباً ، بينما كان حضور القيادات فاتراً وشكلياً. اما تلبية نداء التجمع حول العالم للاحتجاج، فأثبت من خلاله أهالي النقب أن صرختهم لن تضل طريقها في صحراء فلسطين الواسعة بعد الآن، بل  سيتردد صداها في العالم بأسره.

تطور ما كان ليحدث لولا أن أموراً  كثيرة تغيرت خلال الشهور الخمسة الماضية. ازدادت نسبة الوعي لدى الشباب، وباتوا هم من يتصدر المشهد في التثقيف والتوعية تجاه مخططات الاحتلال.

دور الشباب لم ينحصر في المشاركة فحسب في أيام الغضب. فالنداء الأول "ليوم الغضب" أطلقه "الحراك الشبابي في النقب". صحيح أن الأحزاب العربية في الداخل المحتل، ولجنة التوجيه العليا لعرب النقب شاركوا لاحقاً في عملية التأييد والحشد، إلا أن انطلاق فعالية بهذا الزخم ببادرة شبابية يحمل دلالات هامة.

هند سليمان، إحدى الناطقات باسم الحراك، تقول لـ"للمدن" تعليقاً على دور الشباب، "أردنا اليوم أن نرسل رسالة مفادها أن صوت الشباب بات حراً، ولا يخضع لخطاب القيادات النمطي الذي لا يتجاوز الخطوط الحمراء لدولة الاحتلال، أردنا أن نثبت أننا قادرون على رفع سقف الخطاب، وتحويله إلى حراك جماهيري".

وأضافت "الشباب أصبح لديهم ثقة في الحراك، ولا سيما بعد أن شاهدوا تخلي القيادات عنهم في الفعاليات السابقة، ومرافقة الحراك للشباب المعتقلين في حينها".

لكن ماذا عن القيادات وخصوصاً أن ثمة ممثلين عن النقب في الكنيست الإسرائيلي، وثمة مجالس محلية لبدو النقب، ولجنة توجيه عليا لمتابعة قضاياهم عن كثب.

 الناشط الشبابي، أنس أبو دعابيس، يجيب على هذا السؤال لـ"المدن" بالقول إن "القيادات المحلية في النقب هي وجه لوضع المجتمع العربي الفلسطيني في النقب بشكل عام". ويشرح وجهة نظره قائلاً "هي قيادات تعاني من عدم الاتفاق على رؤية موحدة واضحة، وتغلب عليها في كثير من الأحيان المصالح الحزبية كما هو الحال عند باقي القيادات الفلسطينية".

 

ولعلّ أبسط مثال على تلك النزعات الحزبية يتجسد داخل لجنة التوجيه العليا لعرب النقبّ. اللجنة التي من المفترض بها أن تكون ممثلة عن فلسطينيي النقب بكافة فئاتهم، تشهد انقسامات داخلية بين قيادات الأحزاب، وممثلي المجالس البلدية، وشيوخ العشائر، ناهيك عن وجود قيادات قبلت الدخول في مساومات مع سلطات الاحتلال، من قبيل الاعتراف ببعض القرى، مقابل الموافقة على تهجير قرى أخرى متجاهلين خطورة مشروع برافر.

ادراكاً منها لخطورة المشروع وأهمية الحشد الواسع لمواجهته، ترفض إحدى الناشطات في النقب، إيمان الصانع، توصيف نضال أهل النقب على أنه حراك أقلية تسعى لاسترداد حقوقها. وتدعو في تصريح لـ"المدن" إلى إعادة صياغة المفاهيم من جديد، قائلة: "قضيتنا هي قضية وطنية بامتياز، وليست مسألة حقوقية صرفة، نحن جزء من شعب يواجه مشاريع التهويد والاجتثاث منذ النكبة".

وأضافت "لا بد من إدراك هذه الحقيقة وإلا سيصبح حراكنا محصوراً ضمن إطار الدولة (الاحتلال)، ومساحات التعبير المعدة مسبقاً؛ ثم نجد أنفسنا قد وقعنا في الجدل العقيم حول ضرورة الحصول على ترخيص من عدمه، واحترام حركة السير عند التظاهر".

 أهالي النقب لا يبالغون حين يصفون مشروع برافر بأنه نكبة جديدة. فالمشروع يهدد 38 ألف مواطن فلسطيني ممن يتوزعون على 40 قرية في النقب بالتهجير والاقتلاع، في سعي من الاحتلال إلى حصر أكبر عدد من البدو على أصغر مساحة من الأرض، في مقابل توزيع أقل عدد من اليهود على أكبر مساحة من الأرض.

 تزداد الصورة قبحاً بالنظر إلى الشعار الذي يتخذه الاحتلال ساتراً أمام نواياه الاستعمارية، إذ يسعى إلى تمرير مخططاته تلك تحت عنوان: "تطوير بلديات النقب".

وبرغم أن المشروع تم طرحه قبل عامين، إلا أن نوايا الاحتلال تجاه النقب كانت مبيتة منذ عام 1948. برافر لم يكن إلا محصلة لسلسلة من القوانين العنصرية التي استهدفت بالأساس أهالي النقب، بدءاً من قانون "الجنسية والمواطنة" عام 1952، والذي اعتبر أراضي النقب "أملاك غائبين"، ثم قانون "التخطيط والبناء" عام 1965، الذي أخرج قرى النقب من مشاريع التطوير والبلديات الخاص بدولة الاحتلال، وبالتالي حرمت 40 قرية من قرى النقب من الخدمات الحيوية، كالكهرباء والمياه، وكأنها شطبت تماماً عن خريطة "الدولة العبرية".

لا تقتصر المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية على البشر فحسب، إذ إنها موجهة إلى كل مقومات الحياة البدوية بكامل تفاصيلها؛ في سبعينات القرن الماضي أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، ما يسمى بالدوريات الخضراء لمضايقة السكان البدو في كافة تفاصيل حياتهم.

تفرغ رجال الدوريات لملاحقة الماشية، والقضاء على المحاصيل الزراعية، هذا مع الأخذ بالاعتبار أن الرعي ممنوع في الأساس إلا بترخيص رسمي من سلطات الاحتلال، التي يطيب لها المماطلة والتعنت حتى في إصدار ترخيص بسيط لرعي الماعز بحجة أن ذلك يشكل "خطراً على البيئة"، بالرغم من أن الماعز الأسود كان يشكل الثروة الحيوانية الأكبر بالنسبة لأهالي النقب، بل مصدر الرزق الوحيد لبعضهم.

لكن المفارقة أن المبيدات الزراعية، التي هي قطعاً تشكل خطراً على البيئة، استخدمتها إسرائيل لاحقاً في عمليات رش المحاصيل الزراعية، من خلال تسيير طائرات لهذا الغرض تحديداً، مدمّرة بذلك جزءاً كبيراً من الثروة النباتية في قرى النقب.

تريد إسرائيل اجتثاث البدوي من صحرائه، ودمجه قسراً في بيئة مدنية يعيش داخلها حالة اغتراب يومي، وبالتالي لن يتمكن هناك من ممارسة مهن الرعي والزراعة التي ورثها عن أجداده، ما سيسهل على إسرائيل تحويله إلى عامل بسيط يعيش على هامش الدولة، بينما تتفرغ هي إلى المشاريع الحيوية والاستراتيجية في أراضيه المصادرة.

 إذاً هي معركة البقاء والوجود في تلك الصحراء الشاسعة، والمنسية في الوجدان العربي، معركة احتلال طارئ يرى في كل شبر من الأرض مصلحةً استعمارية مجردة، مقابل بدوي أصيل ضرب وتده في الصحراء منذ مئات السنين،  واختارها خيمة ووطنا أبدياً.

 

 

المصدر: 
المدن