الحركة الوطنية الفلسطينية: نحو مراجعة نقدية شاملة

بقلم: 

أثارت قراءة وثيقة "إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية"، التي نوقشت في عمان، يوم 3 تشرين الثاني 2013؛، بعض الملاحظات، التي يمكن إجمال أبرزها، بما يلي:

مضمون الوثيقة، خليط بين الفكر الاستراتيجي والسياسة، ينطلق من الإقرار بإخفاق الحركة الوطنية الفلسطينية الشامل، ويخلص إلى ضرورة تجديدها، بما يُفضي إلى إعادة بلورة المشروع الوطني الفلسطيني، وتغيير المسار، وتطوير الأدوات.

ويبدو أن هذا الاستنتاج المُجمع عليه، نجم عن واقع محسوس، وليس نتيجة لمراجعة نقدية جادة لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية على امتداد أكثر من قرن، للبحث في الأسباب الذاتية والموضوعية عن الإخفاقات المتكررة في مواجهة المشروع الصّهيوني ومنع تقدمه، رغم عدالة القضية وجسامة التضحيات.

ولمراجعة مماثلة لتجربة الحركة الصهيونية، للوقوف، أيضاً، على أسباب نجاحاتها المتواصلة في تحقيق وتقدم المشروع الصّهيوني، رغم أنه معاكس لاتجاه حركة التاريخ.

هذه المراجعة الشاملة ضروريّة، قبل أيِّ طرحٍ جادٍّ لتجديد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ومن دونها يتعذر كُليّا بلورة مشروعٍ وطنيٍّ فلسطينيٍّ تحرّريٍّ قابل للإنجاز بالسرعة والكلفة المعقولة.

ومع أنَّ ذلك يجب ألا يدفعنا إلى تأجيل تصويب الانحرافات في المسار الفلسطيني إلى حين إنجاز عملية المراجعة، فإنّه ينبغي التنبّه إلى مخاطر الانزلاق في المحظورات؛ إذا واصلنا العمل دون برنامج تحرري إنسانيٍّ نهضوي عصريٍّ، يشكل بوصلة توجِّه النضال الوطني الفلسطيني.

وعليه، يجب التّفريق بين العمل الاستراتيجيّ، وبين العمل السياسيّ؛ لأنّ الخلط يضرّ بكليهما، وهو ما يُؤْخذ على الوثيقة موضع المناقشة.

فالعمل الهادف إلى إعادة صياغة المشروع التّحرري الفلسطيني، مهمّة استراتيجيّة تنجزها نخب ثوريّة، من غير السِّياسيّين المنشغلين بالهمّ اليومي، تستعين بفريق وطنيٍّ من المُفكِّرين، وذوي الخبرات السّياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والعسكريّة، وبعدد من مراكز الأبحاث الجادة المتخصصة، ويتفرغون لإنجاز عملية المراجعة النقدية الشاملة، لاستخلاص النتائج وتوظيفها في بناء مرتكزات الرؤية الجديدة، وفي تحديد عناصر برنامجٍ نهضويّ تحرريّ إنسانيّ عصريّ شامل، مؤهّل لهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري، المعاكس لاتجاه حركة التاريخ.

أما التّأثير الفاعل في الوضع السياسيّ القائم، عبر الانغماس العمليّ في تكوين الوقائع، فهو عمل سياسيّ حيويّ، ينطلق من بحث الممكن تحقيقه للنّهوض بالأداء - جني مكاسب أو تقليص خسائر-، ويبدو أن هذا ما يستأثر باهتمام مركز "مسارات"، ومجموعة العمل، ومعدي الورقة، ويخدم صانعي السِّياسات الرسمية والأهلية /الأحزاب والفصائل والنقابات والاتحادات إلخ..../؛ غير أنه ذو طبيعة إصلاحيّة قصيرة المدى، قد يوقف التّدهور في الوضع الفلسطيني، لكنه لن يؤدّي إلى إنجاز المشروع التحرري، ولا يناط به تغيير مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، بما يؤهلها لهزيمة المشروع الصهيوني، بل ويجب عدم تحميله مسؤوليّة ذلك، لأن الخلط بين الإصلاح / تحسين الأداء /، وبين التجديد / تغيير المسار/ يحبط كِليْهما.

وعليه، أعتقد بضرورة مراجعة الوثيقة، وإعادة صياغتها، كوثيقة سياسية، تهدف إلى الإصلاح بتقليص الضرر، وتحسين الأداء الوطني، لأهمية ذلك في عدم إضافة مزيد من العراقيل والعقبات أمام إنجاز المشروع التحرّري الفلسطيني.

فالمصالحة عمل إيجابي؛ لكنها لن تؤدي إلى تغيير المسار المسؤول عن الإخفاق العام في إنجاز المشروع التحرري، والناجم أساسا عن الانحراف عن مواجهة الصهيونية لهزيمتها، وتوجه فصائل العمل الفلسطيني كافة، إلى مقارعة الصهيونية لمساومتها، والوصول إلى حلول وسطى معها. وهزيمة الصهيونيّة، لا تعني بأيّ حال تصفية الوجود اليهودي في فلسطين، الذي ينبغي على المشروع النّهضوي التّحرري، التّعامل معه بطريقة إبداعيّة ومسؤولة، تنطلق من تساوي الحقوق الإنسانيّة في الحياة والحريّة وتقرير المصير، وتستعيض عن الدّولة القوميّة بالدّولة الوطنيّة، وتساعد يهود إسرائيل على التّحرر الذّاتي والتخلص من الأيديولوجيا الصهيونيّة الاستعماريّة العنصرية، وتلمّس الفرصة الحقيقيّة لحلّ الصِّراع، بالتَّشارك مع أصحاب البلاد الأصليّين في بناء مستقبل واعدٍ مشترك في إطار من المساواة التّامّة.

وإعادة بناء مؤسسات منظمة التّحرير الفلسطينية، يبقى قاصراً في غياب مشروع وطني نهضوي تحرّريٍّ يُفترض بالمنظمة قيادة إنجازه.

فالمنظمة أداة وآليّة مؤسسية، تعتمد بنيتها وهياكلها على المهام المناطة بها لإنجازها.

دون أن يعني ذلك، عدم إمكانيّة إصلاح المنظمة وتطوير أجهزتها والقضاء على ترهّلها وتحسين أدائها في خدمة الشّعب الفلسطيني، والحفاظ عليها كصرح وطني جامع.

أما إعادة بناء المنظمة الهادف إلى تأهيلها لإنجاز المشروع التحرري، فسيبقى متعذّراً في غيابه.

الملاحظة الأخيرة، تتعلق ببعض المصطلحات الإشكالية الواردة، التي قد تقودنا إلى نفق مجهول، لا قِبَل لنا بتحمل أعبائه:

فالحديث مثلا عن "إعادة بناء التمثيل الوطني الفلسطيني" ينطوي على خطورة بالغة، في ظلّ الافتقار إلى المشروع الوطني النهضوي التحرري الجامع، وغياب البدائل المؤهّلة، وقد يعيدنا إلى مرحلة التّيه وتفكك الكيانيّة الفلسطينية، في هذه المرحلة المفصليّة التي يُعاد فيها تشكيل المنطقة.

واختزال الديموقراطيّة بالانتخابات، في ظلِّ الواقع الفلسطيني المُقيّد، قد لا يكون الصيغة المُثلى لإفراز قيادةٍ وطنيّةٍ مؤهّلةٍ لهزيمة المشروع الصهيوني.

والحديث عن "رفض المحاصصة الفصائلية"، في المنظمة والسّلطة، غير مُجدٍ، بغياب صيغٍ تنظيميّةٍ أرقى للعمل الوطني، دون الاستهانة بمخاطر المنهج الإقصائي والهيمنة الفصائلية".