أيام في غزة: القطاع قفص كبير

بقلم: 

يبدو قطاع غزة من الخارج قفصاً محكم الإغلاق، وفي الداخل يبدو أن هناك قفصاً لكل مواطن. قفص صنعه الحصار والانقسام وآثارهما التي تطاول كل مواطن وكل شأن من شؤون حياته، من الكهرباء إلى الماء إلى الدراسة والعمل والسفر.
الدخول إلى قطاع غزة مختلف عن الدخول إلى أي منطقة في العالم، فمن الجانب الإسرائيلي يرتفع سياج معدني مكهرب على طول الحدود، ومن الجانب المصري يرتفع جدار وأسيجة، وفي البحر تدور الدوريات العسكرية الإسرائيلية وتطلق النار على كل من يتجاوز الحدود المسموح للصيادين بالوصول اليها، وهي ثلاثة أميال تمت زيادتها بعد الحرب الأخيرة الى ستة أميال.
معبر «إيريز»، كما يسميه الإسرائيليون، و «بيت حانون»، كما يسميه الفلسطينيون، هو المعبر الوحيد للأفراد بين غزة والضفة الغربية عبر إسرائيل. أما الإجراءات الأمنية فهي بالغة الدقة على هذا المعبر، وتدل على مستوى الحساسية الأمنية الإسرائيلية تجاه قطاع غزة وسكانه.
الدخول والخروج من قطاع غزة وإليه عبر إسرائيل ليس متاحاً سوى إلى فئات قليلة جداً، مثل كبار رجال الأعمال والتجار والمستوردين والمرضى ذوي الحالات المستعصية الذين يحصلون من وزارة الصحة في رام الله على تحويلات للعلاج في الضفة أو في إسرائيل، وبعض الحالات الفردية مثل العاملين في المؤسسات والمنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والممثليات الأجنبية ووسائل الإعلام الأجنبية.
يحصل الفلسطيني القادم إلى غزة أو المغادر من تلك الفئات على تصريح إسرائيلي محدد وفق أيام وساعات، وفي حال خرق صاحب التصريح تلك القيود، مثل التأخر ليوم عن موعد العودة، فإنه يفقد حقه في الحصول على تصريح مجدداً.

معبر «إيريز»
الداخل إلى غزة يجتاز المعبر بعد تدقيق وثائقه الشخصية، أما الخارج من القطاع، فعليه أن يجتاز سلسلة إجراءات تفتيش لا مثيل لها في الكون، فالداخل يسلم كل ما يحمله من أمتعة، ولا يبقي معه سوى بطاقته ومحفظته. تذهب أمتعته إلى الجهة الأخرى عبر ماكينة مسح شعاعي خاصة، وتصل إلى رجال شرطة يفتشونها يدوياً قطعة قطعة. أما المسافر، فإنه يدخل الى ماكينة مسح شعاعي أخرى، ثم يدخل بعد اجتيازها الى حجرة فحص ثانية، ثم ثالثة. وهذه الحجرات تفتح وتغلق بأزرار يتحكم فيها رجال أمن يطلون عليها من موقع مرتفع.
بعد اجتياز معبر «إيريز»، ثمة نقطة للسلطة الفلسطينية تدير عملية التنسيق للمسافرين في الاتجاهين، ومنها الى حاجز الشرطة في حكومة حركة «حماس» المسمى «حاجز خمسة - خمسة». يفتش رجال الشرطة الأمتعة يدوياً. يبحثون بين الأمتعة عن كحول أو أي أدوات مشبوهة أمنياً. أحياناً يسأل رجل الشرطة إذا كان المسافر يحمل «فلاش ذاكرة» للحاسوب. وفي حال حمْل الكتب، فإن المفتش يحيله على غرفة مجاورة للفحص.
القادم إلى غزة، تدهمه منذ اللحظة الأولى صور الحرب والفقر، فآثار الرصاص ماثلة على جدران البنايات الأولى بعد المعبر. أما الفقر، فيظهر في البنى التحتية المهترئة، وفي بعض العربات التي تجرها الدواب، وفي الصفوف الطويلة من المواطنين أمام محطات تعبئة الغاز المنزلي، وكثيراً من الأحيان أمام محطات الوقود.

أزمة الكهرباء
المشكلة الأكبر في قطاع غزة هي الكهرباء، وتكاد تكون مادة الحديث الأولى عند المواطن «الغزي»، تماماً مثلما هو الطقس مادة الحديث الأولى عند الإنكليزي.
فالكهرباء تنقطع عن بيوت غزة لمدة 12 ساعة متتالية، ثم تصل لمدة 6 ساعات، لتعود إلى الانقطاع مجدداً 12 ساعة. ويحمل الناطق باسم سلطة الطاقة في غزة المهندس أحمد أبو العمرين أخباراً سيئة جديدة لسكان القطاع البالغ عددهم 1.7 مليون نسمة، مفادها أن شتاءهم هذا العام سيكون أكثر ظلمة وأكثر بروداً. ويقول: «إذا استمرت الظروف الحالية للكهرباء في القطاع، فإن فترة وصول التيار الكهربائي الى البيوت ستنخفض من ست ساعات الى أقل من أربع ساعات».
ويضيف «أن الحكومة تبذل جهوداً حثيثة لحل مشكلة الكهرباء، لكن لا توجد حلول سحرية ... فالحلول الممكنة لمشكلة الكهرباء تتمثل في واحد من ثلاثة، الأول هو تطوير محطة توليد الكهرباء الحالية، لكن هذا يتطلب استثمارات ضخمة في وقت يتردد فيه رجال الأعمال في الاستثمار في هذا القطاع. والثاني هو الحصول على خط كهرباء إضافي من إسرائيل، وهذا يتطلب تعاون السلطة وموافقة إسرائيل. والحل الثالث يتمثل في مشروع الربط الثماني من دول المنطقة عبر مصر، وهذا يتطلب تعاون السلطة ومصر».
وما يقوله أبو العمرين يشير بوضوح إلى أن معضلة الكهرباء مستمرة في غزة، ولا يلوح في الأفق أي حل لها. وباتت أزمة الكهرباء تقيد كل حركة للمواطنين في غزة. فالنساء يلتزمن بيوتهن عند اقتراب موعد وصول التيار الكهرباء ليقمن بالأعمال المنزلية المتراكمة التي تحتاج إلى كهرباء، مثل الغسيل. وكثيراً ما تتأخر الموظفات عن العمل انتظاراً للكهرباء، وينتظر الطلاب الكهرباء كي يدرسوا، والكتاب كي يكتبوا.
كان مشهد احد الطلاب الجامعيين لافتاً وهو يجلس مع كتابه أمام فرع أحد البنوك في مدينة غزة في أحد ليالي الأسبوع الماضي بحثاً عن الضوء كي يدرس لامتحان في اليوم التالي. وقال بعض من التقتهم «الحياة» إنهم يلجأون الى النوم المبكر في حال كان انقطاع الكهرباء في الليل بسبب عدم قدرتهم على القيام بأي نشاط. وقال الطالب الجامعي خالد مسلم إنه ينام في الثامنة مساء بسبب عدم وجود الكهرباء.
قال أحمد يوسف، أحد الشخصيات الإسلامية البارزة في غزة: «نشعر بذعر دائم من الكهرباء، علينا أن نشحن هواتفنا النقالة، ونخطط خروجنا من المنزل وعودتنا وفق برنامج الكهرباء». وقال تاجر عقارات في الستين من عمره: «الكهرباء حولت بيوتنا إلى سجون، فأنا أسكن في الطبقة العاشرة، ونزولي من البيت وصعودي إليه لا يجري إلا وفق جدول الكهرباء».
وتفاقمت أزمة الكهرباء في غزة بصورة أشد بعد قيام مصر بإغلاق الأنفاق الحدودية بينها وبين قطاع غزة. فقبل إغلاق الأنفاق، كان المواطنون يشترون الوقود المصري المدعوم والرخيص لتشغيل مولدات كهرباء منزلية. لكن بعد توقف الوقود المصري عن الوصول إلى غزة، بات المواطنون أمام خيارين: إما شراء الوقود الإسرائيلي الذي يبلغ سعره نحو دولارين للتر الواحد، وهو ما يساوي ضعف سعر الوقود المصري، أو البقاء من دون كهرباء. ويمكن نفهم المشكلة بسهولة أكبر إذا علم أن الغالبية العظمى من أهل قطاع غزة فقراء لا يتجاوز دخل الفرد فيهم دولارين في اليوم.
ويتحدث أهالي غزة بمرارة عن ضحايا الكهرباء: أطفال ونساء ورجال قضوا نتيجة انفجار مولدات منزلية أو تماس كهرباء في أسلاك المولدات المتناثرة في الطرق وعلى ادراج البنايات والبيوت.

المصدر: 
الحياة