القضيتان الفلسطينية والسورية توأم سيامي سياسي
تبدو جدلية الربط والفصل بين القضية الفلسطينية والمسألة السورية عملية معقدة، ويتم عادة تسطيحها إلى عملية ربط ميكانيكية مشفوعة بمعادلة ترتيب الأولويات السفسطائية التي سادت في الفكر السياسي القومي العربي. وتمثلت في الانقسامات والسجالات القومية والقطرية حول الشعارين التاليين: الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين وتحرير فلسطين هو الطريق للوحدة العربية. وأيضاً حول تراتبية مسائل: الوحدة والحرية والتحرير فكانت المعادلة البعثية متمثلة في ثلاثية: وحدة، حرية، اشتراكية، متزامنة مع معادلة: حرية، وحدة، اشتراكية أو اشتراكية، وحدة، حرية أو تحرير.
وراهناً، تختزل الثلاثية المذكورة إلى ثنائية الحرية والديمقراطية ولا تستبدل برباعية الحرية والديمقراطية و التحرير والوحدة. فيسود اعتقاد عبّر عنه المعارض السوري ميشيل كيلو، مؤخراً بقوله: "إن مصير الحل في فلسطين صار مرتبطاً بمصير الثورة في سوريا، وإن نجاح الثانية سيؤدي حتماً إلى تحقيق نجاحات في الأول، لما بين البلدين والشعبين من وشائج وثيقة ومتبادلة، وما تعلّمه الشعب السوري من الثورة الفلسطينية، وعرفه من خلالها، واختزنه من وعي، وهو يتابعها ويتعاطف معها، خاصة بعد نشوب الانتفاضات التاريخية الكبرى، بدءاً من عام 1987، التي أقنعت عامة السوريين أن بوسع العين ملاطمة المخرز، والضعيف مواجهة القوي، بسلاح الحق الذي لن يضيع ما دام وراءه من يطالب به".
أي أنه تمت استعادة الحتمية التاريخية مع ما تستلزمه من أواصر التضامن والتعاطف المتبادلة المستمدة من "العلاقة الخاصة والمميزة" بين الشعبين الفلسطيني والسوري، ومن الإدراك أن "هزيمة الثورة ستعني تقويض الحقوق الوطنية الفلسطينية، واستمرار برامج الاستيطان في الضفة الغربية، وربما في غزة لاحقاً، ما دام هدف إسرائيل من تشجيع النظام على تدمير دولة ومجتمع سوريا كجهتين إقليميتين داعمتين للفلسطينيين هو تبديل معطيات الصراع تبديلاً جذرياً، وحرمان شعب فلسطين وسلطته الوطنية من الدعم السوري".
وهنا لا بد من التذكير أن الحقوق الوطنية الفلسطينية قوضتها اتفاقات أوسلو وملحقاتها وبروتوكولاتها قبل عقود من نشوب الثورة السورية، فضلاً عن أن السلطة الفلسطينية تعلن جهاراً التزامها بشعار "الحياد"، الصيغة الفلسطينية لسياسة "النأي بالنفس" اللبنانية، وبمبدأ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية", ولا تستر تموضعها السياسي الذي برز في مناسبات مختلفة في زيارات علنية لمسؤولين فلسطينيين رسميين على دمشق، إضافة إلى دور السلطة الفلسطينية في طي ملف المخطوفين اللبنانيين التسعة في أعزاز، بالإفراج عنهم بعد اتصالات بين بيروت ودمشق وأنقرة والدوحة ورام الله. استبقته تسريبات نفتها السلطة الفلسطينية- حول وساطة فلسطينية لردم الشقاق بين الدوحة ودمشق.
ويبدو أن بذل الوعود من طراز القول:" إن سوريا الديمقراطية ستشد أزر فلسطين إلى درجة غير مسبوقة، وستعيد طرح مشكلات المنطقة، وستعمل على حلّها انطلاقاً من منظورات جديدة فلسطين في القلب منها، ولن تقبل أن تنفرد تل أبيب بشعبها وسلطته الوطنية، أو أن تقرر خارج أي سياق عربي مصيره، فالديمقراطية السورية لن تكون للسوريين وحدهم، بل ستضع نفسها في خدمة الدول العربية جميعها، فكيف إذاً لا يكون الأقربون الفلسطينيون أولى بمعروفها". يعد أمراً مستنسخاً من ثقافة سياسية شكلت حاضنة لشعارات الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة التي حولت القضية الفلسطينية إلى ما يشبه "قميص عثمان" في بورصة السياسات العربية البراغماتية، ووضعت دمشق وبيروت والقاهرة وعمان في منزلة "هانوي" و"ستالينغراد" و"غورنيكا" الشرق الأوسط.
وكي يستقيم فهم جوهر عملية الربط العضوي بين سورية وفلسطين، لا بد من التشديد على وصف الدكتور غسان سلامة في أحد كتبه سورية بخريطتها السياسية الحالية بأنها "دولة ما تبقى" في إشارة إلى كونها نتاج عملية تقسيم وتفتيت بلاد الشام أو ما يسمى سورية الكبرى.
وجرى حل هذه المسألة في سياق حل المسألة العربية، أي بموجة استقلالات ومعاهدات أنتجت دولاً وكيانات سياسية ملكية وجمهورية سرعان ما انضوت تحت مظلة جامعة الدول العربية.
وكان حل المسألة السورية حلاً جزئياً وناقصاً من حيث شكله وجوهره، وارتباطه بحل المسألة اليهودية على حساب أحد مكونات المسألة السورية المتمثل جغرافياً وديمغرافياً بما سمي سورية الجنوبية أي فلسطين، والفلسطينيون. فظهرت المسألة الفلسطينية بتداعياتها الأيديولوجية وانعكاساتها على التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الخرائط الجيوبوليتيكية لشرق المتوسط. وتمثلت تلك التداعيات والتحولات بصعود الجنرالات إلى سدة السلطة في عدد من الدول العربية عبر انقلابات بيض، وصعود المد القومي في عدد من البلدان العربية الرئيسة، لكن سرعان ما دب الشقاق والنفور بين تياراته من بعثيين وناصريين، وكان فشل تجربة الوحدة السورية - المصرية مؤشراً على تجدد المسألة السورية حيث كان "الاستقلال" السوري "الثاني".
وتجري راهناً عملية إعادة إنتاج المسألة السورية التي قد يترتّب عليها تشكّل تضاريس خريطة سياسية جديدة للمنطقة قد تأخذ شكلاً تقسيمياً منشوداً من جهات إسرائيلية تعتقد بأن "الثورات والحروب في الدول العربية لن تؤدي فقط إلى تغيير الأنظمة، بل والى إعادة تصميم خريطة المنطقة".
وفي السياق نفسه، وتحت عنوان "الكل يريد قسماً من سوريا" كتب الصحافي "الإسرائيلي" تسفي بارئيل مقالاً أوضح فيه أن "سوريا، الدولة عديمة الأهمية الإستراتيجية، الدولة التي ليس فيها نفط أو مقدرات مغرية أخرى، والتي كانت حتى الثورة شريكاً في خطوات إستراتيجية إقليمية، تصبح ساحة مناوشة دولية يكون فيها عدد القتلى "ضرر هامشي" عديم الأهمية أمام المسعى لبناء خريطة شرق أوسطية جديدة من خلالها".
لكن انهيار دولة ما تبقى وتفتيتها إلى رزمة "أفغانستانات" أو "بانتوستانات" قد يشمل الدول والكيانات السياسية المجاورة ويُنتج هويات أقلوية مذهبية لن تُقدم حلولاً عملية للأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة التي تعم أرجاء الشرق الأوسط بل حلول كارثية ستتمثل في حروب طوائف وأقليات تكبح الحريات وتجعل من عملية الدمقرطة أمراً صعب المنال.
وختاماً، يمكن القول إن القضية الفلسطينية والمسألة السورية هما توأمان سياميان سياسياً وجغرافياً وديمغرافياً واقتصادياً، وجوهرهما يتمثل في مسألة حرية الوطن والمواطن غير القابلة للتجزئة. وينبغي أن يتم التعامل مع فلسطين قضية وشعباً بمنطق انتهازي سياسي بل وفق إستراتيجية واضحة وتكتيكات دقيقة تتلاءم مع استحقاقات المرحلة السياسية من إخضاع متبادل للعاملين القومي والقطري، يضمن الخصوصية القطرية الوطنية.
[ الاقتباسات من مقال بعنوان "فلسطين وسوريا: مصير واحد" بقلم ميشيل كيلو، نشرته صحيفة الشرق الأوسط 6/11/2013.