إسرائيل ما بين حديث السلام الوهمي وخطر الوجود الافتراضي

بقلم: 

 

كتب الكثير من المحللين آراءهم حول تطورات المفاوضات الجديدة ‘السرية’ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. وعلى الرغم مما أعلن مراراً عن سرية هذه المفاوضات، إلا أن القاصي والداني أصبح ملماً بمعظم (إن لم يكن كافة) تفاصيل مواقف الطرفين. حرب التصريحات بدأت منذ حين، حيث أبدى الفلسطينيون تشاؤماً غير حذر، مشيرين الى خطوات أممية حال إعلان الفشل الوشيك. الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكثر حذراً في تصريحاتها، مشيرة إلى أن دورها يقتصر على تقريب وجهات النظر، وليس فرض أي طرح.

إسرائيل، وفي الجهة الأخرى من هذه الحرب الكلامية، أبدت استغراباً من الموقف الفلسطيني، الذي وصفه رئيس وزرائها ‘بالمتعنت’، مؤكداً أن الفلسطينيين يفتعلون مشكلة لوقف المفاوضات. ما يهمنا في مقالنا هذا هو إلقاء الضوء على حرب أخرى، تستعر رويداً رويداً، من دون أن يلحظها أحد، وهي من الخطورة أنها توجه سهامها نحو عقول القارئ الغربي، الذي بدأ في الآونة الأخيرة يلفظ الرواية الإسرائيلية، وهي سهام سمها زعاف، يهدف وبهدوء شديد إلى تحييد نتائج أي جهود فلسطينية على المستوى الدولي في فترة لاحقة.

فقد عصفت أقلام كبار الكتاب الإسرائيليين، في الأونة الأخيرة، بمعظم الصحف الغربية، في محاولة للتأثير على الرأي العام الغربي. وعلى الرغم من أن هذه الكتابات تبدو متباعدة وغير متسقة، إلا أنها ترسل جميعها رسالة واضحة وواحدة: الخطر الداهم الذي يهدد الوجود الإسرائيلي.

قد يتبادر لذهن البعض أن هذا الأمر لا علاقة له بالمفاوضات، وقد يتبادر لذهن البعض الآخر أن الخطر الذي قصده أولئك الكتّاب هو خطر خارجي قادم من سورية، أو سيناء، أو إيران ومن اعتقد هذا أو ذاك فقد جانبه الصواب.

حقيقة الأمر هو أن أولئك الكتاب، وعلى الرغم من عدم ارتباط معظمهم رسمياً بالحكومة الإسرائيلية إلا أنهم حملوا وجهة نظر واحدة، تتسق مع الرؤية الرسمية الإسرائيلية، وهي يهودية دولة إسرائيل، والخطر الفلسطيني الداهم القادم من الداخل. فخلال فترة وجيزة، عجت الصحف الغربية بمقالات من هذا النوع، مشيرة إلى أن إسرائيل تواجه خطراً وجودياً يستدعي التصدي له، وبأسرع وقت ممكن، وذلك من خلال تثبيت وتأكيد يهودية دولة إسرائيل، وبدعم محبي ‘السلام’ على حد قولهم.

وبادئ ذي بدء، وجبت الإشارة إلى أن إسرائيل ومنذ تأسيسها عام 1948 لا دستور لها حتى يومنا هذا، أما ما يحدد الأهداف والقيم الوطنية فيها، فهو مجموعة من أحد عشر قانوناً أساسياً، لا يتضمن أي منها تعريف إسرائيل ‘كدولة يهودية’. ومن هذا المنطلق، كتب لاهاف هاركوف، أن عدم وجود قوانين تدعم مكانة إسرائيل كدولة يهودية يستدعي وقفة سريعة لإتمام مشاريع تضمن يهودية دولة إسرائيل، ولكنه نبه، في ذات الوقت، الى أن أي قانون أساسي يعلن إسرائيل دولة ‘يهودية’ ديمقراطية سيمنع المحاكم من اتخاذ أية قرارات تضعف طبيعة إسرائيل ‘اليهودية’ باسم الحفاظ على الديمقراطية. وهو ذات المنطق الذي كتب فيه مايكل أوبراين الذي قال، انه إن اختارت إسرائيل أن تكون ديمقراطية، فستنتهي فكرة ‘يهودية’ إسرائيل.

أوبراين الذي قدم بدوره عرضاً مستفيضاً حول الأخطار الوجودية على إسرائيل، قام بالتركيز على خطــــر ضياع القــــدس ‘من إسرائيل’، وحذر من أن الخطر الديمغرافي العربي لا يقتصر على يهودية دولة إسرائيل فحسب، بل على استمرارها بشكل عام. ورغــم مرور ما يزيد عن الثلاثة أعوام على مقال أوبراين، إلأ أن الكثير من الكتاب الإسرائيليين ما زالوا يستشهدون به.

أما أكثر ما لفت نظري في مقال أوبراين فهو الطريقة التي ابتدعها ليروج للقارئ الغربي فكرة الخطر الوجودي على إسرائيل. فعلى سبيل المثال، عندما تحدث عن القدس، وفي محاولته لإيقاع القارئ في شركه، ذكر أن القدس لم تعد ذات أغلبية ‘صهيونية’، ولم يستخدم كلمة ‘يهودية’، فالأرقام التي قدمها تفند بحد ذاتها هذه الرواية. فيقول أوبراين ان تعداد سكان القدس 800 ألف نسمة، منهم فقط 328 ألف يهودي، وصنف الهاريديم اليهود (وتعدادهم 200 ألف) مع تصنيف العرب (وتعدادهم 272 ألفا). بطبيعة الحال إنه لو قام بجمع أعداد اليهود مقابل العرب (الذين رفض أن يصنفهم كمسلمين ومسيحيين) لأصبحت معادلته معكوسة تماماً.

وفي حديثه عن الخطر الديمغرافي للعرب، فقد استخدم إحصاءات النمو في قطاع غزة والضفة الغربية، ليثير مشاعر التعاطف مع أقلية أظهرها وكـأنها آخذة بالزوال، حيث أشار وبصراحة الى أن أي تفكير بحل دولة واحدة ثنائية القومية يعني إنهاء المشروع الصهيوني.

ألون بن مائير، وهو إسرائيلي أمريكي، يخاطب الجمهور الأمريكي بصفته أمريكيا وليس إسرائيليا، يقول ان الخطر الحقيقي الذي يواجه إسرائيل هو الخطر الديمغرافي (مدعماً حجته بإحصاءات مقارنة للنمو السكاني بين الفلسطينيين والإسرائيليين) وزوال يهودية الدولة. انتقد بن مائير نتنياهو لاستمرار مطالبته للفلسطينيين بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، حيث رأى أن المطالبات من دون فعل على الأرض لا يعني شيئاً، مذكراً القارئ الغربي بمعاناة اليهود وضرورة الحفاظ على وطن لهم، وحدهم دون غيرهم.

وزير مالية نتنياهو يائير لبيد قال أيضاً ان ‘إسرائيل لا تحتاج لاعـــتراف فلسطيني بيهوديتها’، مضيفاُ، ‘قمنا نحن اليهود بالاعتراف بأنفسنا، ولا نحتاج اعترافًا من الآخر’.

قدم جميع أولئك الكتاب خططا وطرقا لتدعيم سبل المحافظة على يهودية دولة إسرائيل، تراوحت بين استحداث القوانين التي ترسخ يهودية دولة إسرائيل، وحقوق اليهود، والتأكيد على اللغة اليهودية وتجاوز أية لغة ثانية، وتشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، ومحاولة منع اليهود من الهجرة من إسرائيل، وتدعيم الوجود اليهودي وتشجيع الاستــــثمارات في مدينة القدس لتصبح مركز جذب لليهود من كافة أرجاء إسرائيل.

وبنظرة تحليلية سريعة لجميع ما سبق، يبدو كأن الكتاب الإسرائيليين يعدون الشارع الغربي لما هو قادم. أولاً، هذه المقالات لن تخرج عن إطار تبرير مقنع لتصلب الموقف الإسرائيلي حيال أي إجراء يتعلق بيهودية الدولة أو القدس. وإن فشلت المفاوضات بسبب هذه المواقف المتعنتة، إن جاء الجانب الفلسطيني محتجاً على هذه المواقف، فلن يجد آذاناً صاغية، بعد أن مسها سحر الآلة الإعلامية الإسرائيلية. ثانياً، قد تكون هذه المقالات مقدمة لإجراءات وقوانين إسرائيلية من أجل الحفاظ على يهودية الدولة. ولأن الرأي العام الغربي قد يجد في هذه القوانين شيئاً من العنصرية، وجب إعداد الشارع الغربي وتسهيل قبوله بهذا الأمر.

ومن هنا أرى في الاحتمال الثاني أمراً يستدعي وقفة حقيقية، خاصة أن مؤشرات بدت تلوح في الأفق تدعم هذا الرأي، كان آخرها إصدار نتنياهو تعليماته ببناء جدار في غور الأردن، وما تسرب عن تصميم إسرائيل على اعتبار الجدار الفاصل حدود دولة إسرائيل، مع ضم عدد جديد من المستوطنات. إن جميع هذه الإجراءات تصب في زاوية واحدة وهي محاولة المحافظة على يهودية دولة إسرائيل، داخل إطار وحدود معلومة، ولن تكتمل هذه العملية إلا من خلال العمل على إجراءات لاحقة من شأنها الحفاظ على نقاء يهودية دولة إسرائيل.

في حديث سابق لنتنياهو قال ان ‘الخطر الديمغرافي الذي تواجهه إسرائيل يكــــمن في المواطنــــين الإسرائيليين العرب، فإن وصل تعدادهم إلى 35 – 45′ من إجمالي تعداد السكان، لن تكون هناك دولة يهودية بعد الآن’.

تصريح نتنياهو هذا يعني أن الخطوة التالية هي العمل على تقليل الوجود العربي (الفلسطيني) داخل إسرائيل، بتشجيع العنف ضد المواطنين العرب، أو من خلال سياسة تضمن نقاء الدولة هذه، بترحيل أكبر عدد ممكن من السكان غير اليهود في خطة عرفت بالترانسفير.

في الختام، لا يسعنا سوى الإشارة إلى أهمية تدعيم الوجود الفلسطيني العربي في القدس وفي أي بقعة على الأرض، وسبل تدعيم الوجود هذا عديدة تنتظر إرادة وقرارا عربيا حقيقيا، يعكس ما اتفق عليه في قمم جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. أما في ما يخص الشرط الإسرائيلي بضرورة اعتراف الجانب الفلسطيني بيهودية دولته، فهو شرط لا يستند الى منطق، خاصة أن إسرائيل نفسها، وفي قوانينها الأساسية لا تعرف إسرائيل كـ’دولة يهودية’، إضافة إلى أن جميع الدول التي اعترفت بإسرائيل (وهي 160 دولة) لم تعترف أيضاً بيهوديتها، ناهيك عن انتقاداتها المستمرة لدول تعرف هويتها بالإسلامية مثل أفغانستان وباكستان وإيران وموريتانيا.

 

المصدر: 
القدس العربي